جزء من مقالي استشرافات المستقبل السياسي كتبته قبل أكثر من عام
بل إن الثورات العربية في هذين العامين والتي أفضت إلى التمكين السياسي للإسلاميين لم تكن بمعزل عن المخطط الأمريكي الذي قرر المُنَظِّرون له منذ أكثر من عقد من الزمان ضرورة تغيير أنظمة العالم العربي الاستبدادية وإحلال ديمقراطيات محلها ولو أدى ذلك إلى تمكين نوع من الإسلاميين يُمكن استخدامهم في نشر مفهوم إسلامي جديد قادرعلى استيعاب القيم الإمريكية وضرب الإسلام المتشدد من خلاله , وقد شجعت المؤسسة الأمريكية فعلا مفكرين وكتابا وسياسيين على إعلان طروحات علمانية الحقيقة وإلباسها زَيا إسلاميا , وهذه الطُروحات يُراد لها أن تكون بديلاً عن الإسلام المُتشدد من وجهة نظر المُنظر الأمريكي والمتمثل أكثر ما يكون التمثل في الفكر السلفي , ويُمكن مراجعة عدد من تقارير مؤسسة راند كتقريرها المسمى بناء شبكات إسلامية معتدلة وتقريرها المسمى الإسلام المدني الديمقراطي , وكذلك تقرير معهد دراسات الشرق الأدنى والذي نشر مختصراً له مركز الجزيرة للدراسات وأعده ألكسس غلني تحت عنوان بناء جسور لا جدران , وكذلك كتاب لحظة أمريكا لتغيير التاريخ لريتشارد هاس رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الولايات المتحدة , وأيضا كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما , كل هذه الدراسات السابقة على الثورات العربية تعطي بمجموعها يقينا بأن الولايات المتحدة لم تكن بعيدة أبداً عن هذه الثورات وما جاء بعدها.
ويبدو لي أن موعد التغيير لم يكن قد حان في نظر الولايات المتحدة حين قامت الثورة السورية , فالنظام هناك لازال شابا وقويا ومتماسكا ولا يُعَرِّض المصالح الأمريكية والصهيونية لأي مخاطر , كما أنه يتعاون بشكل جيد مع حليف الباطن , وأعني به الجمهورية الإيرانية وأصابعها في لبنان وغيرها ,أما المعارضة السورية في الخارج ضعيفة جداً وغير مؤثرة في الداخل إطلاقاً , أما المعارضة في الداخل فشأنها أضعف بكثير وإن كان النظام يُعطيها في بعض الأحيان فرصة للتنفس والتنفيس لكنه تنفس من منخر واحد ومن يحاول استخدام منخريه كليهما يتعرض لقطع أنفه بالكلية .
لذلك لم تتعاطف الولايات الأمريكية المتحدة مع الثورة السورية في أشهرها الأولى , وكانت أول مطالبة أمريكية للرئيس السوري بالرحيل على لسان أوباما بعد أشهر من اندلاع المظاهرات السورية السلمية ومقابلتها حكوميا بالقمع الدموي الوحشي , ومع ذلك لم يلتفت سوى القليل للتناقض بين موقف أمريكا من ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وموقفها من ثورة سوريا , وكان هذا القليل من الإسلاميين السلفيين وحدهم , ولو التفت الآخرون له لكان وحده مؤشراً كبيراً وواضحا على عنصر المؤامرة فيما سبقه من أحداث.
ولا زال موقف الأمريكيين من سوريا مريباً في أحسن أوصافه حتى بالنسبة لمن لازالوا يُحسنون الظن بها أو أؤلئك الذين ملأوا آذاننا بنقد فكرة المؤامرة , أما أسوأ أوصافه وهو أكثرها مطابقة للواقع , فإنه موقف خبيث لا يعبأ بما يُراق من دماء السوريين المظلومة في سبيل تحقيق أحد أهداف الولايات المتحدة في المنطقة وهو تحطيم جميع القوى العسكرية المجاورة لإسرائيل .