نُطُُق «النطاقات» .. بقية من حديث
منذ أن تم نشر الجزء الأول من هذا المقال في الأسبوع الماضي تواصلت وتتالت الأحداث المرتبطة بموضوعه، بدءا باستمرار الوزير في جولته المكوكية وعروضه التسويقية لبرنامج ''نطاقات''، إلى جانب عدد آخر من التصريحات والتلميحات المرتبطة به وبقضايا العمل والبطالة بشكل عام. واليوم أستكمل حديثي عن هذا البرنامج وفرص نجاحه والتساؤلات التي تدور حوله، معرجا على بعض ما برز خلال الأسبوع الماضي من مستجدات عكست فيما يبدو محاولة من الوزير وجهاز الوزارة لتدارك بعض المواقف السلبية من البرنامج، وتدعيم فرص نجاحه بعدد من القرارات والإجراءات الإلحاقية. ومع أن هذا الأمر يحمل دلالات إيجابية، إلا أنه يبرز حالة من عدم النضج يعيشها هذا البرنامج، فبدا كما لو أنه برنامج تجريبي مرتجل تتم صياغته وتطوير آلياته أثناء تنفيذه، خاصة أنه ولد في رحم الوزارة بعيدا عما يتطلبه واقع المعالجة من تواصل وحوار وتفاعل مع أركان اللعبة، وعلى رأسهم هذا القطاع الخاص الذي سيكون عليه أن يدفع ثمن معالجة قضية البطالة، وله بذلك من الحق أبسطه في أن يدلي بدلوه ويبدي رأيه في هذا البرنامج وغيره من مبادرات الوزارة التي دأب الوزير على الحديث عنها وعن إطلاقها في قابل الأيام.
أحد جوانب الضعف الأخرى في برنامج ''نطاقات'' وزارة العمل هو في أنه حمل المسؤولية كلها في معالجة قضية توطين الوظائف برقبة القطاع الخاص، في الوقت الذي يمارس القطاع الحكومي أدوارا مختلفة تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في قدرة القطاع الخاص على أداء هذه المسؤولية. فعلى سبيل المثال، فإن عقود الدعم الفني لأجهزة القطاع الحكومي هي في حقيقتها وسيلة للتوظيف المؤقت والمقنع في القطاع الحكومي، ومثل هذا التوظيف يغلب عليه استقطاب الأجانب، من ناحية أنه لا يوفر للسعوديين الاستقرار المطلوب، علاوة على تلك المنافسة السعرية الحادة التي يفرضها نظام المنافسات والمشتريات الحكومية. وفي النتيجة، تقوم مؤسسات القطاع الخاص بتوظيف الأجانب للعمل في أجهزة الدولة، وعليها في المقابل أن تتحمل تبعات السعودة والتوطين وغير ذلك من الرسوم والتكاليف المنظورة وغير المنظورة. المثال الآخر هو ما تمارسه الدولة من ترسيخ لمفهوم الأمان الوظيفي في القطاع الحكومي، وليس أدل على ذلك من تلك المزايا التي تمتع بها منسوبو القطاع الحكومي ضمن حزمة القرارات الملكية الأخيرة وما شملته من مكافآت وتحديد للحد الأدنى للأجور في القطاع الحكومي وتصحيح لسلم الرواتب الحكومية، في الوقت الذي يواجه العاملون في القطاع الخاص مخاطر انعدام الأمان والاستقرار وغياب الحوافز وطول ساعات العمل، وفوق ذلك المنافسة على معدلات رواتب منخفضة مع وافدين لهم من التوقعات والمتطلبات سقف أكثر انخفاضا منه في حالة السعوديين. وإذا كان وزير العمل يريد لبرنامجه النجاح المأمول، فإن عليه أن يطلق مبادرة تسبق هذا البرنامج لمعالجة دور القطاع الحكومي في هذه القضية، خاصة أن القطاع الحكومي سيمثل المصدر الأكبر لتمويل وتنفيذ مشروعات التنمية للسنوات الخمس القادمة على أقل تقدير، وذلك في ظل انحسار دور القطاع الخاص إبان الأزمة المالية العالمية.
وفي معرض الحديث عن التوظيف المقنع للأجانب في الدولة عبر عقود الدعم الفني، فإنني أجد لزاما أن أنبه إلى أن عددا من شركات القطاع الخاص، وبعضها شركات كبرى يشهد لها بتحقيق نسب مرتفعة من توطين الوظائف، هذه الشركات تقوم بممارسة الآلية ذاتها من التوظيف المقنع للأجانب، وذلك عبر التعاقد مع شركات أصغر لتوفير موظفين يكونون على ملاك تلك الشركات، دون أن تتحمل الشركة أي تأثير سلبي في نسب السعودة فيها، أو أعباء ومشكلات التوظيف والتأمين والرسوم وغير ذلك من وجع الرأس الذي تتحمله الشركات الأصغر، وتقوم الشركات الكبرى بدفع ثمنه، لتخرج ببياض الوجه وجوائز التقدير والعرفان لما حققته من نسب توطين وظيفي مرتفعة، وهي فيما أزعم الشركات ذاتها التي ستحتل النطاق الذهبي الممتاز في هذا البرنامج الوليد. وأنا في الحقيقة لا أدري إن كانت وزارة العمل تعلم حقيقة ممارسة التوظيف المقنع للأجانب أم أنها تتعامى عنها بقصد أو بغير قصد؟.. ومن ذلك ما تتشدق به البنوك التجارية من تحقيقها نسب سعودة مرتفعة تقارب الكمال، فيما هي تجير توظيف من تحتاج إليهم من أجانب إلى شركات أخرى من شركات التوظيف وتجارة الرقيق الأبيض.
الشيء الآخر، أن برنامج النطاقات الوليد لم يتضمن أية معالجة جادة وفاعلة لما تشتكي منه مؤسسات القطاع الخاص من ظاهرة عدم استقرار السعوديين في الوظائف. هذه الظاهرة هي ظاهرة حقيقية لا أدري أيضا إن كانت الوزارة على علم بوجودها وتأثيرها الخانق في قدرة مؤسسات القطاع الخاص على تحقيق ما يطلب منها من توطين للوظائف. إن التكلفة التي تتكبدها مؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص في توظيف شاب سعودي وتدريبه وتأهيله ليكون فردا منتجا في هذه المؤسسة لا تعد شيئا يذكر في مقابل الخسارة التي تتكبدها نتيجة ترك هذا الشاب موقع عمله، إما لتكاسل نعلم كلنا مقدار استشرائه عند الكثيرين من الشباب الذين لا يملكون ثقافة العمل الجاد، وإما استجابة لإغراء يسيل له اللعاب من مؤسسة أخرى من مؤسسات القطاع الخاص ذاته، وهو ما أرى أنه سيكون واقعا أكثر اتساعا في ظل تطبيق هذا البرنامج؛ إذ إنه سيفتح الباب على مصراعيه لاستقطاب السعوديين العاملين في القطاع الخاص بالدرجة الأولى لتحقيق نسب التوطين المطلوبة للوصول إلى النطاقات العليا، خاصة في ظل ما تحدثت عنه سابقا من تفضيل مطلق للشباب السعودي للعمل في القطاع الحكومي. ولا أعتقد أن الوزارة تراهن على استقطاب السعوديين من القطاع الحكومي لترك وظائفهم التي توفر لهم الاستقرار والدلال والراحة لينخرطوا في وظائف مؤقتة في القطاع الخاص لا توفر لهم ما يرومونه من استقرار ونمو وظيفي.
الجانب الأخطر - في وجهة نظري - سبقني بإبرازه أحد الإخوة الذين أدلوا بتعليقاتهم على الجزء الأول من هذا المقال، وهو في حالة السيطرة والتمكين والتسلط التي سيمارسها موظفو القطاع الخاص من الأجانب كنتيجة حتمية لفتح الباب لانتقالهم إلى كفالة مؤسسات أخرى دون موافقة كفلائهم الأصليين الذي يقعون في النطاقين الأصفر والأحمر. إن الواقع الذي عاشه القطاع الخاص في الفترة الماضية من استخدام مثل هؤلاء الأجانب حالة التعاطف التي تمارسها مكاتب العمل معهم عند تقديم الشكاوى ضد كفلائهم، وما يتم على أرض الواقع من منحهم تراخيص عمل مؤقتة تضعهم في موقع السطوة، كل ذلك يؤكد المخاطر التي يحملها هذا البرنامج في هذا الجانب، ويدعو إلى حاجة ملحة إلى معالجة فاعلة لهذا الأمر. مع أني لم أستطع أن أفهم بعد كيف يمكن لمؤسسة في القطاع الأخضر أن تعلم لون النطاق الذي تقع فيه المؤسسة التي يريد نقل كفالة عامل ما منها، وهل ستكون هذه المعلومات متوافرة على سبيل التشهير بالمؤسسات الواقعة في النطاقين الأصفر والأحمر، لتكون ساحات مفتوحة لسحب العاملين فيها إلى مؤسسات النطاقين الأخضر والممتاز.
خلاصة القول، هذا البرنامج يحمل إمكانات كبيرة لتحقيق نجاح منقطع النظير في معالجة قضية البطالة، لكن هذا النجاح يتطلب وضعه في موضع التنفيذ بموازاة تلك البرامج الأخرى التي يبشر بها الوزير، والتي أتطلع أن تكون قد تم تصميمها لمعالجة ما أبرزته وتحدث عنه الكثيرون من مواطن الخلل الأخرى في صلب القضية. وقد يكون المفتاح الأهم لمعالجة هذه القضية النظر بجدية في مراجعة نظام الكفالة الذي يجزم الكثير أنه فقد فاعليته على أرض الواقع، وسيفقد مزيدا من هذه الفاعلية بعد تطبيق هذا البرنامج ذي النطاقات الملونة التي تجعل نقل الكفالة ميزة مستحقة بدلا من أن تكون عبئا يحد من التوسع في تطبيقه.
خالد بن عبد الرحمن العثمان
|