معالجة ارتفاع الأسعار وفقا للسياسة الشرعية .. حكم دعم الأسعار
- د. ناصح المرزوقي البقمي - 13/09/1428هـ
naseh@ids.gov.sa
تقدم في مقال سابق جواز استعمال سياسة التسعير لمعالجة ارتفاع الأسعار، وأنها تعد من السياسة الشرعية. وبقيت سياسة اقتصادية أخرى لمعالجة ارتفاع الأسعار هي الدعم، فما حكم هذه السياسة في الشريعة الإسلامية؟
ينقسم الدعم إلى قسمين رئيسيين
1 ـ دعم الأسعار: وهو المال الذي تدفعه الحكومة للبائعين والمنتجين المحليين؛ لتخفيض أسعار السلع والخدمات التي يعرضونها، لكي تصبح ملائمة للناس جميعهم، أو بغرض تشجيع قطاع من القطاعات الإنتاجية لتمكين المنتجين المحليين من المنافسة في السوق الداخلية والتصدير إلى الأسواق الخارجية. فالدعم إذن، أو الإعانة كما يسمى أحيانا، مساعدة تدفعها الدول النامية إما لأسباب اجتماعية فتخفض أسعار بعض السلع الضرورية اللازمة للمستهلكين ومنها السلع الاستهلاكية الأساسية مثل: الخبز، الأرز، السكر، الحليب، الزيوت النباتية، وبعض الخدمات كالكهرباء والمياه والوقود، وإما لأسباب اقتصادية، فتدفع تلك المعونة لمنتجي سلعة معينة لتمكينهم من منافسة السلع الأجنبية. ويتخذ دعم الأسعار صورا عدة منها: الإعانات المباشرة للبائعين للبيع بسعر منخفض، إعانة الصادرات، فرض رسوم على الواردات لحماية الإنتاج المحلي، وشراء الدولة السلع من المنتجين بأسعار تشجيعية. وهدف الدول النامية من التدخل في نظام الأسعار ـ ومنه الدعم ـ هو الحد من آثار حرية عوامل العرض والطلب الضارة بمعيشة الفقراء وذوي الدخول المنخفضة، وذلك لأن قانون العرض والطلب لا يمكن الاعتماد عليه اعتمادا كاملا لتحقيق التوزيع الأفضل للموارد؛ وربما يترتب عليه أحيانا إهمال المصلحة العامة.
2 ـ دعم الدخول, وهو الدعم المدفوع للفقراء لزيادة دخولهم وتمكينهم من شراء لوازمهم الضرورية. ويتخذ عدة صور منها: المنح الدراسية، إعانات الإغاثة، الإعانات التي تصرفها الحكومة ومؤسسات الخدمة الاجتماعية، والزكاة والصدقات التطوعية.
ورأى بعض الفقهاء المعاصرين جواز دعم الأسعار واستدلوا بما يلي:
1 ـ أن دعم الأسعار نوع من التسعير, والتسعير جائز عند الحاجة العامة على القول الراجح.
2 ـ مصلحة المستهلكين في الحصول على السلع والخدمات الضرورية بأسعار منخفضة.
3 ـ أنه لما ارتفعت الأسعار في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله، أمر بفتح الدكاكين والبيوت الخاصة بالدولة ووجهائها لبيع الحنطة والشعير بأقل من سعر السوق, ما أدى إلى انخفاض الأسعار.
ورأى فريق آخر من المعاصرين عدم جواز دعم الأسعار واستدلوا بقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح", حيث ذكروا مفاسد كثيرة في سياسة دعم الأسعار منها ما يلي:
1 ـ أن دعم الأسعار لا يستفيد منه المحتاجون الحقيقيون وهم الفقراء, بل يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء، بسبب استهلاكهم الأكثر وسهولة وصولهم إلى السلع المدعومة. ولا يوجد مسوغ لدعم الأسعار بالنسبة إلى الأغنياء أو الذين يطيقون الدفع. إنما الذين ينبغي مساعدتهم هم الذين لا يستطيعون دفع السعر الحقيقي وهو سعر السوق كالفقراء وأصحاب الدخول المنخفضة.
2 ـ أن دعم الأسعار في الواقع لا يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية من ناحية الحفاظ على المال وزيادة الإنتاج؛ فمثلا المعونة الزراعية ساعدت كبار المزارعين على تملك المزيد من الأراضي وتكديس الممتلكات. كما أن المعونة التي تدفع للصناعات المدنية ـ بحجة حماية الصناعة المحلية الناشئة ـ لم تشجع تلك الصناعات على النمو.
3 ـ يؤدي دعم الأسعار إلى الاستهتار في إنتاج السلعة بسبب حصول منتجها على ربح دون جهد، وهذا يؤدي إلى تفوق على السلع الأجنبية السلع المحلية، فيضطر الناس إلى شراء الأجنبية لجودتها مع غلائها، ويتركون السلع المحلية لرداءتها مع رخصها.
4 ـ الإسراف في استهلاك السلع والخدمات المدعومة، كما هو حاصل في استهلاك المياه والكهرباء ونحو ذلك، وهدر موارد الدولة، وذهاب جزء من الدعم إلى الأغنياء وهم غير محتاجين إليه، وما يترتب على ذلك من عجز في الموازنة العامة للدولة.
5 ـ ما يسببه الدعم من عرقلة لنظام الأسعار، وإخلال بقوانين العرض والطلب، وحرية النشاط الاقتصادي.
6 ـ أن المال العام ينفق على سلع لا ينتفع منها المسلمون جميعهم، والأصل أن ينفق المال العام فيما يعود بالنفع على المسلمين جميعا.
والذي يظهر لي أن رأي الفريق الثاني هو الراجح؛ لأنه يوجد فرق بين دعم الأسعار والتسعير. فالتسعير هو أن تضع الدولة حدا للأسعار لا يتجاوزه التجار، من دون أن تدفع لهم مالا. وأما دعم الأسعار فهو أن تدفع الحكومة للتجار مالا يساوي الفرق بين سعرين: سعر السوق وسعر أقل منه هو السعر الذي ينبغي البيع به. فالفرق بين التسعير ودعم الأسعار واضح وكبير. فإذا كان دعم الأسعار يختلف عن التسعير، فلا يمكن أن نلحق الأول بالثاني؛ لوجود الفارق بينهما. كما أن وجود مصلحة انخفاض الأسعار في الدعم تقابلها مفاسد كثيرة, كما تقدم. وأما فعل الخليفة العباسي، فهذا في الحقيقة ليس دعما للأسعار بمعناه الاقتصادي، وإنما توسيع للمنافسة التجارية، وهو أسلوب جيد لكنه ينبغي أن يكون حلا مؤقتا، بناء على أن الأصل هو عدم تدخل الدولة الإسلامية في النشاط الاقتصادي إلا عند الحاجة. كما أن فعل الخليفة المذكور ليس دليلا من أدلة الشريعة الإسلامية التي تثبت بها الأحكام، فلا يستدل به على جواز دعم الأسعار.
وحيث لا يوجد نص من الكتاب أو السنة يأمر بدعم الأسعار سواء أمر إيجاب أم أمر استحباب، ولا يوجد نص ينهى عنه سواء نهي تحريم أم نهي كراهة، فإن ذلك يعني أن مسألة دعم الأسعار داخلة في إطار السياسة الشرعية، ومنوطة بالمصلحة العامة للأمة، وقد تبين أن لهذه السياسة آثارا ضارة بالاقتصاد، وأن المفاسد في دعم الأسعار أكثر من المصالح. وبناء عليه، فإنني أرى منع دعم الأسعار، وبإلغائه إن كان معمولا به؛ وذلك لما يلي:
1 ـ وجود المفاسد السابقة في دعم الأسعار التي ينبغي منعها أخذا بالقاعدة الشرعية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
2 ـ أن الأصل في الإسلام هو أن تبقى الأسعار حرة حسب العرض والطلب دون تدخل من الدولة إلا عند وجود الضرر كالاحتكار أو ارتفاع الأسعار ارتفاعا مفتعلا، وإذا حدث ذلك، فإن لولي الأمر أن يتدخل لإزالة هذا الخلل وإعادة الأسعار إلى وضعها السابق بالتسعير ونحوه.
3 ـ إمكانية تعويضه بدعم الدخول. حيث يمكن زيادة دخول الفقراء بتحويل الأموال التي كانت تدفع من الموازنة العامة لدعم الأسعار إلى زيادات في دخول تلك الفئة، إضافة إلى العمل بفريضة الزكاة، الصدقات التطوعية، الوقف، الكفَّارات، وغيرها مما يدخل في معنى دعم الدخول. ودعم الدخول فيه مصالح كثيرة من أهمها: أنه يعطي الفقراء الفرصة لتحديد أولوياتهم؛ فالفقير يحصل على الإعانة وينفقها حسب الأهمية له ولأسرته. ومنها عدم الإسراف في استهلاك السلع أو الخدمات؛ فالفقير يستهلك بحسب حاجته ولا يزيد على ذلك؛ خشية ارتفاع فاتورة الاستهلاك.
4 ـ انضمام المملكة ومعظم دول العالم الإسلامي إلى منظمة التجارة العالمية التي تطالب اتفاقياتها بحصر الدعم في نطاق ضيق. وأمرنا الله بالوفاء بالعقود والعهود والمواثيق في كتابه العزيز، وبخاصة إذا كانت تلك العهود لا تعارض نصا من نصوص الكتاب والسنة. والتوقيع على اتفاقية المنظمة التي تحصر الدعم في أضيق نطاق ليس فيها إشكال لعدم وجود نصوص شرعية تأمر بالدعم كما تقدم، فينبغي احترام تلك العهود والعمل بها.