التمويل البنكي .. مشكلة الإسكان الأولى
د. عدنان بن عبد الله الشيحة - 04/05/1428هـ
aashihs@psu.edu.sa
لا شك أن الإسكان يمثل ركنا أساسيا في حياة الأفراد وهو من أهم الضروريات التي لا يستطيع الإنسان العيش دونها ليس لتعلقه بمسألة البقاء والعيش وحمايته من العوامل الطبيعية وحفظ النفس والعرض والمال وحسب، ولكن في هويته وكينونته، ودون السكن يكون الفرد ضائعا تائها دون عنوان. والإسكان هو شخصية المدينة ومستوى تحضرها ورقيها. أما من الناحية الاقتصادية فإن السكن يمثل في المتوسط 30 في المائة من الدخل، وهي نسبة كبيرة لا يصل إليها أي سلعة اقتصادية أخرى. مشكلة الإسكان تكمن عندما يفوق الطلب العرض ويحدث نقص حاد في عدد المساكن المطلوبة مقارنة بالمعروض منها وعندها ترتفع أسعار العقار. سرعة الاستجابة لهذا الارتفاع من قبل المستثمرين لا تكون متناسبة مع معدل سرعة ارتفاعها في المدى القصير. وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى عدة عوامل، أهمها: أن إدراك هذا التغيير من قبل المستثمرين عادة ما يكون متأخرا نسبيا، وعلى درجة الأهمية نفسها فإن المشاريع العقارية تتطلب وقتا طويلا في إنشائها. إذن مشكلة العقار هي في المدى القصير وليس المدى الطويل حيث يكون الوقت كافيا لعمل المشاريع الإسكانية المطلوبة في التوقيت المناسب. إن ما يجب إدراكه أن هناك نوعين من الأسواق في قطاع الإسكان سوق الخدمات وسوق الاستثمار، وأن كلا السوقين مرتبط بالآخر. وأهمية هذا التصنيف والعلاقة بينهما ترجع إلى أن زيادة الطلب في سوق الخدمات والمتمثلة في الإيجارات تؤدي إلى تحفيز الاستثمار في قطاع العقار بينما زيادة المعروض من الوحدات السكنية تؤدي إلى خفض الإيجارات. الوضع الأمثل في قطاع الإسكان هو عندما يتساوى المخزون من الوحدات السكنية في المدينة مع المخزون المرغوب، وهذا يحدث أو يفترض أن يحدث في المدى الطويل إذا ما كانت آلية السوق تعمل بكفاءة. أما في المدى القصير فكما سبقت الإشارة إليه فإنه قد لا يكون بالإمكان تحقيق ذلك. السؤال هنا كيف يمكن أن نحقق التوازن بين الطلب والعرض، بمعنى آخر أن يكون معدل العائد الحدي من الاستثمار في العقار مساويا لمعدل التكاليف الحدية، فمتى تم ذلك يكون سوق العقار قد بلغ التوازن المطلوب. ما يحدث الآن (في المدى القصير) أن أسعار الخدمات العقارية (الإيجارات) تكون أكبر من التكاليف والسبب ليس لزيادة تكاليف البناء فقط، وإنما بالإضافة إلى ذلك تنامي الطلب من خارج السوق المحلية فهناك شركات أجنبية واستثمارات خارجية دفعت بمعدل الطلب بشكل حاد. المشكلة أن أجور الموظفين لا تتغير بذات المعدل الذي تتغير به أسعار السلع والتي من أهمها الإسكان، ما يؤدي إلى تناقص القيمة الشرائية للريال ويعني عدم قدرة عموم المواطنين على منافسة موظفي الشركات العالمية التي عادة ما تكون عالية وتوفر السكن لموظفيها. وهذه معضلة كبير ة يعاني منها المواطنون وتقلل من امتلاكهم مساكن في المستقبل وتأمين حياة كريمة لمن يعولون، وهكذا يدخل منخفضو الدخل وحتى متوسطو الدخل في دوامة من تراكم الضغوط الاقتصادية لينصب اهتمامهم في الاستهلاك دون محاولة الادخار لبناء مسكن لعجزهم الاقتصادي. وفي الوقت ذاته يجد المواطن نفسه إذا ما قرر الاقتراض من البنوك التجارية أمام معضلة كبيرة. فالبنوك لا تملك الدافعية نحو مساعدة الناس على حل مشكلاتهم وإيجاد أدوات ووسائل تمكنهم من الاقتراض، وأهم من ذلك بمعدل فائدة مقبول. إن ما تفعله البنوك هو مجزرة اقتصادية تأخذ فيها أكثر من حقها أضعافا مضاعفة، بل هو تعد صارخ على حقوق الناس. كيف؟ إن نظام الإقراض يعتمد على معدل تراكمي يزيد مع زيادة السنوات أي لو افترضنا أن معدل الفائدة البنكية 5 في المائة للسنة، فإن هذه النسبة تضرب بعدد سنوات الإقراض مع أن المبلغ ينخفض مع سداده كل سنة، وبالتالي كان من المفترض أن يقل معدل الفائدة السنوية والمبلغ الذي يتم تحصيل الفائدة منه مع مرور الوقت. بينما نجد في دول غرب أوروبا وأمريكا وغيرها، مهد الرأسمالية التي صدرت إلينا النظام، يتبعون قروض إسكان يطلق عليها Mortgages وتأتي الكلمة من Mort وتعني الموت بالفرنسية، إذ إنه في حال تم سداد الدين يكون موته والقضاء عليه تدريجيا مع كل دفعة سداد. وبالمقارنة نجد أن القرض من البنوك التجارية في السعودية تقضي على المقترض من اليوم الأول وحتى سداد آخر قسط! أعلم أن هناك نظاما للعقار استصدر هو نظام الرهن العقاري إلا أن الكثيرين لا يعلمون ماذا حل به؟ ولما لم يطبق بعد؟ ولما لم يُعرّف به؟!
ما أريد قوله من هذا السرد هو أنه لا نستطيع تفادي مشكلة الإسكان إلا من خلال التخطيط طويل المدى وبشراكة بين السياسات العامة للإسكان التي تسهم في توجيه وإرشاد وقيادة قطاع الإسكان عبر حزمة من السياسات والخطط والتشريعات والضوابط التي تهيئ وتحفز وتسهل بناء المساكن للأفراد والمؤسسات من جهة، والقطاع الخاص وبناء قدراته وإمكاناته في صناعة العقار وتحقيق الإنتاجية والكفاءة في تلبية الطلب المتزايد على السكن من جهة أخرى. وتأتي البنوك في محور عملية تطوير قطاع الإسكان وتلبية الطلب المتزايد عليه. إذ إن التمويل يمثل عنصرا أساسا في حل مشكلة الإسكان وسد العجز بين المتوفر والمطلوب. إلا أنه لعدم وجود استراتيجية للإسكان واضحة المعالم تحدد الأدوار والأطر العامة لما يتوقع من جميع الأطراف المشاركة في صناعة العقار فلن نفلح إذا أبدا في الوصول إلى النتائج المطلوبة وسنظل نعاني من مشكلة الإسكان أبد الدهر، بل ستتفاقم مع مرور الزمن. الخطوة الرئيسة في مضمار معالجة مشكلة الإسكان أو على أقل تقدير التخفيف منها هي إدراك أن البنوك التجارية مُنحت فرصو عظيمة ومساحة كبيرة من الحرية لتفعل ما تشاء دون دور اجتماعي مطلوب. وأقصد دورا اجتماعيا ليس بمفهومه الاستجدائي ولكن الفرضي الإجباري. إذ لا يصح في بلد اقتصادي ينعم بالثراء والوفرة أن تستفيد البنوك دون أن يجب عليها القيام بأدوار تسهم في التنمية المحلية من خلال وضع برامج تمويلية ميسرة حقيقية تساعد أفراد المجتمع على تخطي محنتهم وفي الوقت ذاته يعود عليها بالنفع العظيم لأن البنوك رابحة في جميع الأحوال من جانب الإقراض ومن جانب الإيداع، فما يقرض يودع وما يودع يقرض! ومع ذلك تأبى البنوك إلا أن تأخذ أكثر من حصتها بفرض فوائد بنكية عالية ثابتة على مدى سنوات القرض تصل في بعض الأحيان إلى ما يقارب 100 في المائة حسب المدة والمبلغ المقترض. إن ما يحدث في قطاع البنوك أمر يجب ألا يستمر وحان وقت السماح للبنوك الأجنبية بالدخول للسوق حتى يتم كسر حالة الاحتكار الذي يمارس ضد المواطنين ويكون هناك طرق جديدة للتمويل تكون البنوك شريكا أو ممولا رئيسا لشركات عقار كبيرة تقوم بتبني سياسة الإنتاج الوفير للوحدات السكنية لخفض التكلفة المتوسطة ورفع مستوى الجودة والترويج لنمط جديد من المباني الاقتصادية وثقافة جديدة للسكن. إن اقتصادا كبيرا مثل الاقتصاد السعودي يحتاج إلى وسائل تمويل وبناء متطورة بدلا مما هو حاصل الآن من اجتهادات شخصية ومقاولين أجانب صغار هم عمال تنفيذ أكثر منهم مقاولين. إن الإنتاج الوفير للمساكن والتصاميم الاقتصادية والتمويل الميسر وضبط أسعار أراضي المخططات الجديدة بوضع سقف أسعار يعكس التكلفة الحقيقة لتطويرها هذه هي عناصر النجاح الأساسية في مواجهة مشكلة الإسكان.
إن إنشاء هيئة عامة للإسكان يعكس أهمية معالجة مشكلة الإسكان، قد تكون الهيئة عنصر تغيير إيجابيا إذا ما كانت لها قراءة شاملة للوضع ورؤية عامة لما ينبغي عمله وإحداث تغييرات أصيلة وتبني قرارات جريئة تضع حدا لهذا الوضع المتردي لقطاع الإسكان، بل المنفلت دون قيد أو شرط. أما إذا اختارت الاستغراق في التفاصيل الفنية والدخول في متاهات العمل الحكومي الروتيني والدوران في ذات الإطار الحالي وقضاء جل وقتها في الاجتماعات وتكوين اللجان، فستكون الهيئة عائقا بيروقراطيا يُضاف إلى العوائق الأخرى التي يستفيد منها البعض ويخسر منها الكثيرون.