الملحق الثقافي السعودي في الجزائر.. الحقباني ل "الرياض":
200بليون ريال تخسرها الدول العربية سنوياً جراء هجرة العقول للخارج
أوضح الأستاذ خالد الحقباني الملحق الثقافي السعودي في الجزائر بأن الهجرة اتخذت منذ القدم وإلى وقتنا الحاضر أشكالاً متعددة من بينها الهجرة المنظمة التي يقصد بها هجرة الوطن إلى دول أخرى للاستيطان والإقامة فيها، بهدف البحث عن حياة أفضل، كما هناك هجرة المبتعثين وتتمثل في امتناع بعض الذين يتلقون تعليمهم في الخارج إلى العودة إلى أوطانهم، وتشير الدراسات إلى ان 45% من الطلبة العرب الذين يدرسون في الغرب لا يعودون لبلادهم، في حين تعود منهم نسبة 54% فقط، وفي دراسة أجريت على الطلبة المسلمين والعرب الدارسين في الدول المتقدمة واتجاهاتهم نحو العودة إلى أوطانهم بعد انهاء دراستهم تبين ان نسبة كبيرة من هؤلاء الطلبة تقنع بالبقاء والاستقرار في مقر البعثة.
فهذا النوع من الهجرة عريق عراقة الإنسانية على وجه الأرض، حيث ارتبطت الهجرة منذ الأزل بطلب العلم والمعرفة في شتى أنحاء العالم، وكان للإسلام دوره وأثره الطيب في اجتهاد العلماء المسلمين وانتشار معارفهم في الشرق والغرب خلال القرون الوسطى، حتى آفاق الأوروبيون بعد ذلك من غفلتهم وسباتهم وتمردوا على هيمنة الكنيسة التي ظلت تقيدهم وتمنعهم من التعلم لقرون طويلة باسم الدين، فوجهوا حينئذ اهتمامهم الخاص لاكتساب المعارف والعلوم ومن ثم عرفوا قيمة المفكرين والعقول العبقرية المتميزة وعملوا على الاحتفاظ بها وتطويرها باعتبارها مكسباً لأي أمة لأنها المصدر الأهم والأساس لتطور الأمم وتحضرها، وهو نفسه السبب الذي جعلهم لا يكتفون فقط بالحفاظ على عقولهم المبتكرة بل دفعهم إلى استقطاب العقول المبدعة والمفكرة من الدول الأخرى خاصة من دول العالم الثالث وبصفة أخص من الدول العربية، وذلك بسبب الفارق المعيشي الكبير بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة كأمريكا وكندا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي قبل التفكك، بل وأصبحت هذه الدول المتقدمة تتسابق على اجتذاب علماء ومفكري الدول النامية، وقد عرفت كل من أمريكا وكندا تدفقاً لاعداد هائلة منهم حتى ان نسبة الكفاءات العالية المهاجرة إليهما قد وصلت إلى نسبة 31% في الوقت الحاضر، في حين كانت لا تتعدى 1% في القرن التاسع عشر ميلادي وذلك حسب دراسات المحلل العالمي مايرز - Myers، وتحظى أمريكا بالنصيب الأكبر من الكفاءة والعقول العربية بنسبة 39%، تليها كندا بنسبة 13% وتتجلى الخطورة في ان عدداً من هؤلاء يعملون في أهم التخصصات الحرجة والاستراتيجية مثل: (الجراحات الدقيقة، الطب النووي والعلاج بالاشعاع والهندسة الالكترونية، علوم الليزر، تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية والهندسة الوراثية..).
وبالنظر إلى الموضوع بتمعن أكثر فإنه يمكن استنتاج ان لهذه النسبة الكبيرة من الهجرة للعقول النابغة أسباب كثيرة مختلفة ومتنوعة، لأنه ليس من السهل على هؤلاء هجر أوطانهم وترك أهاليهم وراءهم، إلاّ لضرورة ملحة تدعوهم إلى ذلك، وقد عمد الباحثون إلى احصاء هذه الأسباب فوجدوا بأنها ترجع إجمالاً إلى أسباب اقتصادية وأسباب اجتماعية وأسباب سياسية وأسباب أكاديمية.
وقال الحقباني: ان هجرة هذه العقول تعتبر استنزافاً حقيقياً لجسد الأمة العربية وعائقاً مخيفاً لتقدمها، لأن هذه العقول تمثل الثروة الرئيسة لها يتوجب عليها السهر على الحفاظ عليها واستثمارها أحسن استثمار، لأن الدول العربية دول نامية كما هو معروف وبحاجة إلى كل فرد من أفراد أمتها للنهوض بها حضارياً وثقافياً واقتصادياً وتجارياً وعلمياً.. إذا ما أرادت مواكبة العصر بمختلف معطياته ومتطلباته، لذا عليها ان توفر أسباب الراحة لكفاءاتها وتؤمن لهم كل وسائل العمل وتساعدهم على الإبداع، بدل سد أبواب النجاح في وجوههم ودفعهم للهجرة الخارجية بالتنقل إلى بلدان أكثر حضارة وقوة اقتصادية وعلمية، أو للهجرة الداخلية بهجر تخصصاتهم وترك ميادين إبداعاتهم وامتهان مهن عادية من أجل تأمين حاجيات معيشتهم، مما يترتب على الحالتين خسارة كبيرة لهذه الدول، فقد أشار تقرير منظمة الأمم المتحدة إلى ان أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا يعملون في الدول المتقدمة حيث يسهم وجودهم في تقدمها أكثر ويعمق رحيلهم عن الوطن العربي آثار التخلف والارتهان للخبرات الأجنبية، كما أنه حسب آخر الاحصائيات للعديد من المنظمات والمراكز العربية يترتب على هجرة هذه العقول خسائر صافية تنال من مقدرات المجتمعات العربية، حيث يشير أحد تقارير منظمة العمل العربية إلى ان الدول العربية تتكبد خسائر سنوية لا تقل عن 200بليون ريال بسبب هجرة العقول إلى الخارج، وتقترن هذه الأرقام بخسائر كبيرة نجمت عن تأهيل هذه العقول ودفع كلفة تعليمها داخل أوطانها، مما يؤكد ان الدول العربية تقدم مساعدات إلى البلدان المتقدمة عبر تأهيلها لهذه الكفاءات ثم تصديرها لها لتستفيد من خبراتها العلمية.
وقد دفع هذا الأمر بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية إلى ادراج هذا الموضوع في جدول أعمال القمة العربية التاسعة عشرة المنعقدة بمدينة الرياض مؤخراً والتي وصفت ب "قمة القمم" نظراً للتأكيد العربي والعالمي على نجاحها، وذلك بغرض عرض هذا الموضوع الشائك والحساس على طاولة نقاشها، لأنه بات من الضروري الالتفات إلى الموضوع بعين البصيرة وعدم السماح للوضع بالتفاقم، وذلك بإيجاد سبل أكثر جدية وفعالية للحد من النسب المتزايدة للعقول العربية المهاجرة، وتوفير الجو الملائم لها للعمل والتميز في وطنها الأم لبنائه وتشييده ورفعه عالياً في مصاف الدول المتقدمة، لأن الوقت قد حان لجعل هذه القوة العلمية سلاحاً منيعاً في يد الدول العربية يدافع عنها ويدفع بها إلى الأمام، مع تأمين فرص العمل لهم.
وهذا عين الصواب لأن فرص العمل هذه ستجعلهم يصرفون النظر عن فكرة الهجرة، كما ان تهيئة مثل هذه الفرص ستجعل أغلبية المبتعثين يرجعون إلى أوطانهم، فمثلاً في المملكة تم خلال العامين الماضيين فقط ابتعاث نحو 18ألف طالب وطالبة، وقد شملت التخصصات الدراسية للمبتعثين 20تخصصاً علمياً وتقنياً وطبياً وهي: (الأحياء، الأشعة، التأمين، التجارة الالكترونية، التسويق، التقنية الطبية، التمويل، التمريض، الحاسب الآلي، الزمالة، الرياضيات، الصيدلة، الطب، العلوم الصحية، الفيزياء، القانون، الكيمياء، المحاسبة، المختبرات الطبية، الهندسة)، وذلك ضمن خطوة تهدف إلى رفع مستويات طلابنا وتأهيلهم وتدريبهم في الجامعات العالمية للحصول على شهادات البكالوريوس (ليسانس) والماجستير والدكتوراه والزمالة الطبية حيث تندرج هذه الخطوة ضمن المشاريع التنموية لتطوير التعليم التي تطرق إليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - حفظه الله ورعاه - خلال كلمته التي ألقاها مؤخراً أثناء افتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة الرابعة لمجلس الشورى، بدعوته فيها إلى وجوب نشر ثقافة العمل وتوفير فرص العمل للمواطنين وتنمية القوى البشرية للمملكة ورفع كفاءتها ودعم وتشجيع البحث العلمي والتطوير التقني. ونحن نستبشر خيراً من هذه المشاريع لأنها بحق ستعمل على الحفاظ على عقولنا المفكرة التي أنفقت مملكتنا في سبيل تكوينها أموالاً طائلة وعملت دائماً على تطويرها وتحسين مستواها حتى تعود لبلدنا وتشارك في خدمته وتطوره، لذا نرجو ان يعمل مجلس الشورى وفق سلطته التنظيمية (التشريعية) في البلاد على طرح موضوع هجرة عقولنا على طاولة نقاشه بغرض حصر هذه الظاهرة ومعالجتها قبل تفاقمها وذلك بإيجاد خطة عمل بين مختلف الهيئات الرسمية كالجامعات والكليات، وزارة التعليم العالي، وزارة العمل، وزارة الاقتصاد والتخطيط، وزارة الصحة، المراكز المهنية، الشركات الكبرى في مختلف القطاعات (الحكومية والخاصة).. للتنسيق فيما بينها قصد توفير نسبة معتبرة من مناصب عمل تتناسب مع نسبة الكفاءات عندنا سواء الموجودة بداخل المملكة أو خارجها، وذلك حتى نضمن أحسن استغلال لهذه القوة العلمية الوطنية وحتى نضمن عودتها إلى الوطن، لأنه حقيقة نحن لا نعاني من هذه الظاهرة بشكل خطير كما هي الحال بالنسبة للدول العربية الأخرى لكننا نقول ذلك من باب الحيطة والحذر ولخوفنا من ارتفاع نسبة هذه الظاهرة لدينا كما هي الحال لدى غيرنا، خاصة وأننا نستقبل سنوياً نسبة هائلة من الطلبة المبتعثين العائدين الذين كثيراً ما يواجهون مشكلة التوظيف (وما ادراك ما التوظيف)، وكما يقول المثل العربي القديم: "الوقاية خير من العلاج".
.