المقال
نزيف السيولة، القضية الأسخن..
م. خالد عثمان
بعد أن نشرت مقالتي بعنوان "من أجل إيقاف نزيف السيولة داخلياً وخارجياً" في الأسبوع الماضي جاءتني ردود كثيرة أسعدتني في مجملها في كونها مؤشرا بالنسبة لي يدل على مستوى الوعي والتفاعل الذي وصلنا له في مناقشة مثل هذه المواضيع الساخنة، رغم أن لهجة الإحباط تطفو على سطح معظم تلك الردود، وهو ما حثني حقيقة للمزيد من الحديث في هذا الموضوع المفرح المقلق معاً.
الاستفادة من السيولة التي ننعم بها اليوم بفضل من الله سبحانه وتعالى أصبحت الشغل الشاغل لكل مواطن على درجة متواضعة من الوعي، باعتبار أنه يرغب في الاستفادة من هذه السيولة في تحسين مستوى معيشته من ناحية، وربما الإثراء السريع لدى البعض، كما قد يرغب البعض الآخر في أن يرى بلاده تتقدم بين الأمم الأخرى بخطى راسخة يدعمها اقتصاد قوي يقوم على أسس وقواعد متينة بمصادر دخل متنوعة بحيث لا يتأثر بشكل كبير نتيجة للتذبذب في أسعار النفط كما حصل في تسعينيات القرن الماضي.
إن مصدر القلق الحقيقي لدى المواطن السعودي العادي والمواطن السعودي المحترف ينطلق من حقيقة مفادها أن الشفافية والوضوح في التعامل مع هذه السيولة لتكون شرارة انطلاق لدورات مالية متتالية في كل قطاع إقتصادي تكاد تكون شبه معدومة، وأن ما يظهر للعيان هو أن قطاعات الحكومة ستتعامل مع تلك السيولة الكبيرة كما تعاملت مع سابقتها بالصرف المباشر على المشاريع التنموية دون تغيير جذري في آليات الصرف وهياكلها المالية والإدارية، مما يجعل تلك المشاريع بشكل عام عرضة للضمور نتيجة التذبذب في أسعار النفط المصحوب بالنمو المتزايد على طلب تلك الخدمات.
ومصدر القلق أيضا ألا ينال المواطن من تلك السيولة سوى آثارها السلبية المتمثلة بالتضخم الكبير في الأسعار المقرون بانخفاض القوة الشرائية للريال السعودي المقترن بالدولار المتهالك أمام العملات الأخرى، خاصة وأن الجميع يرى جمود أو بطء الجهات الحكومية المنظمة ذات الصلة بتفعيل دور تلك السيولة لتلعب دورها في تحقيق الأهداف التنموية الشاملة والمستدامة، وأضع خطين تحت كلمة المستدامة. كما يرون أيضا الجمود والتخلف في الجهات الحكومية التنفيذية التي لم تخرج من شرنقتها لترى الواقع المتغير بسرعة لا يمكن اللحاق بها دون مرونة كبيرة وآليات متجددة تتناسب والتكيف مع تلك المتغيرات.
يقول أحد المعلقين على المقالة السابقة ما معناه أنك تنفخ في قربة مقطوعة لجهة جمود الفكر والسلوك لما ألفه العاملون بالقطاع الحكومي من عمل قائم على الشك والريبة والحسد والانفصام التام عن أهداف الحكومة التنموية، فكل يعمل في وزارته أو مؤسسته الحكومية في معزل عن الآخرين ومعزل عن خطط التنمية الخمسية، لدرجة أنك لو سألت أحد المسؤولين عن دور المؤسسة الحكومية التي يعمل بها في تحقيق أهداف خطة التنمية لفتح فاه مستغربا من هذا السؤال، فهو يعمل يوميا لتسيير الأمور كما هي التعليمات والتنظيمات، وهمه الوحيد عدم الوقوع في الخطأ لكي يتجنب العقاب والمساءلة.
ولهؤلاء الإخوة أقول ارفعوا درجة الأمل لعدة أسباب منطقية، الأول والأهم بظني أننا ننعم اليوم برعاية ملك يحمل لواء الإنسانية، ملك وضع مصلحة المواطن وتحقيق أفضل درجات العيش الكريم له ولأسرته نصب عينيه، وهو ما أثمر عن ظهور مؤسسات حكومية لم تكن موجودة من قبل، كما أثمر عن نهضة تشريعية ومشاريع تنفيذية في أوقات قياسية. والثاني أننا نمر بمرحلة مخاض شديد، حيث أرى كما يرى غيري جميع الملفات الساخنة على بساط النقاش والتداول في أروقة الحكومة ومجلس الشورى وعلى صفحات الصحف وعلى شاشات القنوات الفضائية وفي المواقع الإلكترونية وفي المجالس دون خوف أو توجس أو ريبة، بل ان النقاش لبعض تلك القضايا الساخنة كان برعاية القيادة في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. وأنا على ثقة بأن هذا المخاض سيخلف نتائج أكثر من إيجابية بإذن الله.
أما السبب الثالث فيتمثل فيما وصل إليه قطاعنا الخاص من فكر اقتصادي ومالي وإداري متطور، حيث يسعى العاملون في هذا القطاع لتعزيز دور الحكومة في تحقيق الاستفادة المثلى من تلك السيولة من خلال ما يطرحونه من مقترحات معززة بنماذج ناجحة طبقوها بحر أموالهم لتحسين البيئة الاستثمارية في بلادنا لتكون أكثر قدرة على استيعاب تلك السيولة إضافة للسيولة الخارجية لتحويلها لمشاريع تنموية ذات قيمة وقيمة مضافة. ولاشك أن هذه الأسباب ستؤتي ثمارها، خاصة إذا أصبح كل مواطن منا ومن موقعه في القطاع الخاص او الحكومي جادا ومخلصا في عمله رافعا من درجة مسؤوليته تجاه نفسه ووطنه وأبناء وطنه. وأنا واثق من ذلك، خاصة ونحن نرى مبادرات كريمة هنا وهناك من أفراد المجتمع السعودي كل من موقعه وبإمكاناته لتطوير ما يمكن تطويره، ولمعالجة ما تجب معالجته، للنهوض ببلادنا لتحقق مراكز متقدمة في السباق الأممي المحموم.
.