حديث السوق
البنوك المحلية وتحسين البيئة الاستثمارية
د. عبدالعزيز حمد العويشق
نتحدث كثيراً عن «تحسين البيئة الاستثمارية» وكونه ضرورياً لتشجيع الاستثمار المحلي وجذب الاستثمارات الأجنبية. ومنذ فترة أحصت الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية أكثر من 100 معوق يواجه الاستثمار في المملكة.
ولكي نتمكن من تحسين بيئة الاستثمار فإن من الضروري أن «نفكك» هذا المفهوم إلى عناصره الرئيسية، ونحاول فهم والتعامل مع كل منها. وأرى أيضاً ألا نقتصر في الحديث على «جذب الاستثمار» فحسب بل عن تحقيق الاستفادة المثلى منه، وتقوية الروابط بينه وبقية الاقتصاد الوطني، بحيث تستفيد منه قطاعات كبيرة من الاقتصاد بدل أن يكون في أماكن معزولة محدودة التأثير.
وأريد الحديث اليوم عن دور التمويل كعامل أساس في تحسين البيئة الاستثمارية. ففي الدول الصناعية يُعتبر نضج الأسواق المالية أحد أهم عوامل نجاح الاستثمار، كما سبق أن أوضحت في مقالات سابقة، في حين أن للبنوك دوراً رافداً لتلك الأسواق. أما في منطقتنا فما زالت البنوك مهيمنة على العمليات المالية، سواء في الإقراض او التمويل، بل تسيطر البنوك بشكل غير مباشر على أسواقنا المالية برمتها. ولهذا يرى الكثيرون أن البنوك في المنطقة هي أحد أهم محددات (ومعوقات) الاستثمار الوطني والأجنبي. فعندما تكون تكلفة التمويل مرتفعة، وعندما يكون التمويل مقصوراً على شريحة صغيرة من كبار المستثمرين، وعندما تكون معايير التمويل غير شفافة وغير عادلة، وعندما يكون عدد الأدوات التمويلية المعروضة محدوداً من حيث الكم والكيف، فإن ذلك كله يشكل قيوداً على الاستثمار وعلى مقدار استفادة الاقتصاد منه.
وبالمقابل عندما تتمكن البنوك من تطوير وسائلها التمويلية وتقديراتها للمخاطر، وتتمكن الجهات الحكومية من توفير البيئة القانونية المناسبة لذلك، فإن البنوك سوف تكون عوامل جذب للاستثمار أولاً، وعوامل تزيد من انتشاره وتعميق آثاره، سواء منه الاستثمار المحلي أو الأجنبي. وهناك بديل آخر هو تطوير الأسواق المالية نفسها بحيث تكون مصدراً للتمويل متوسط وطويل المدى، ولكن ذلك مشروع سيأخذ كثيراً من الوقت قبل أن يتم.
وأورد هنا قصتين عن بلدين مختلفين وكيف اختلفت استفادتهما من الاستثمارات الأجنبية حسب نضج الأدوات المالية في كل منها.
ففي دراسة قام بها عدد من الباحثين مؤخراً قام الباحثون بالمقارنة بين تجربة شركة (سوزوكي) اليابانية في الهند وتجربة شركة (إنتل) الأمريكية في كوستاريكا بأمريكا الوسطى، ووظهر تفاوت ملموس في استفادة الاقتصاد الوطني من كل من الاستثمارين، أرجعته الدراسة إلى الدور الرئيسي الذي يؤديه توفير التمويل في «نشر» الاستثمار وتعميق آثاره في الاقتصاد.
ففي عام 1981 دخلت شركة سوزوكي في مشروع مشترك في الهند لإنتاج السيارات للسوق المحلي، وفي البداية كانت جميع قطع الغيار تُستورد من اليابان، وبمرور السنوات استطاعت الشركة الاعتماد على عدد متزايد من منتجي قطع الغيار المحليين، بحيث انه بحلول عام 2000 أصبح 90٪ من قطع الغيار هندي الصنع. وكان لتوفر التمويل اللازم للشركات المنتجة لقطع الغيار دور رئيسي، حيث تمكنت شركة سوزوكي من تطوير تلك الشبكة من منتجي قطع الغيار المحليين بتوفير التمويل اللازم لهم محلياً.
وعلى العكس من ذلك، فإن شركة (إنتل) الأمريكية المشهورة بإنتاج معالجات الكمبيوتر أنشأت مصنعاً في جمهورية كوستاريكا في عام 1996. وتُعتبر كوستاريكا من كثير من النواحي بيئة جاذبة للاستثمار، حيث تتمتع باستقرار سياسي لا يتوفر في أي دولة أخرى في أمريكا الوسطى، وتتمتع كذلك بحكم مدني لا يتدخل فيه الجيش في السياسة (حيث لايوجد بها جيش أساساً)، ويفوق سكانها معظم سكان دول أمريكا اللاتينية تعليماً. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من وجود شركات محلية لديها القدرة الفنية لإعداد برامج الكمبيوتر التي يحتاج إليها مشروع شركة إنتل، إلا أن قدرة الشركة على توفير التمويل اللازم للمنتجين المحليين لكي يتمكنوا من إنتاج البرامج التي يتطلبها المشروع كانت محدودة، مما اضطر شركة إنتل إلى استيراد البرامج المطلوبة من خارج كوستاريكا، ومما أدى بالتالي إلى الحد من استفادة كوستاريكا من المشروع.
وأرى أن وضع المملكة ودول مجلس التعاون عموماً اقرب إلى مثال إنتل في كوستاريكا في هاذين المثالين. فصعوبة التمويل تدفع المستثمر إما إلى الاعتماد على مصادر تمويل خارجية، أو إلى التقليل من حجم استثماره وقصره على نطاق محدود، أو إلى محاولة التمويل المحلي على الرغم من أنه سيرفع من تكلفة المشروع. ويمر بكل استشاري اقتصادي مشاريع كثيرة يعتمد نجاحها أو عدمه إما على توفر التمويل، أو على تكلفة التمويل إن وجد أصلاً، ويؤدي عدم توفر التمويل أو ارتفاع تكلفته إلى إحجام صغار المستثمرين عن التوسع والاقتصار على مشاريع محدودة ذاتية التمويل. ولعل أحد أهم أسباب نجاح الشركات الصينية التي تستثمر في منطقتنا هو قدرتها على توفير التمويل من البنوك الصينية بتكلفة معقولة مقارنة بتكلفة التمويل لدى البنوك الخليجية.
|