«التعقيم الاقتصادي».. آخر العلاج الكيّ (1)
عبد الحميد العمري
04/05/2005
تعاني جميع الاقتصادات في العالم من استيطان ما يُطلق عليه الاقتصاد الخفي، الذي سبق وتطرقت إليه في العديد من المقالات، ويمكن تعريفه حسب تحديد صندوق النقد الدولي له، بأنه الاقتصاد الذي يشمل إضافة إلى الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة كل أشكال الدخل التي لا يُعبّر عنها رسمياً والتي يتم تحصيلها من إنتاج السلع والخدمات المشروعة، سواءً كانت من المعاملات النقدية أو المعاملات التي تتم بنظام المقايضة. وقدر IMF حجم اقتصاد الظل في العالم من خلال عينة إحصائية ضمّت 84 بلداً خلال الفترة 1988 ـ 2000 في البلدان النامية بنسبة راوحت بين 35 و44 في المائة من إجمالي الاقتصاد، وفي بلدان التحول الاقتصادي شكّل كنسبة ما بين 21 و30 في المائة، وأخيراً في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ما بين 14 و16 في المائة.
وقد تباينت درجات نجاح جهود الحكومات في إطار مواجهتها هذا الداء العضال، ومما يؤسف له أن أغلب ما تحقق على صعيد تلك المواجهة لم يرتق بعد إلى المستوى المستهدف للقضاء عليه. فرغم إعادة الهيكلة لتلك الاقتصادات، ورغم قرارات وإجراءات الإصلاح التي وصلت إلى حدودٍ قاسية عانت معها بعض مجتمعات تلك الدول ـ خاصّةً في العالم الثالث - إلا أن ظلال هذا الاقتصاد استمرت في الامتداد حتى وصلت إلى قطاعات ومجالات كانت قبل بدء تلك الإجراءات أو الإصلاحات المضادة نقية من سرطان هذا الاقتصاد! وهذا ما دعا عدداً من الاقتصاديين في مختلف بقاع العالم إلى المناداة علناً بعدم التصدّي لأنشطة هذا الاقتصاد؛ حيث أثبتت بعض الدراسات التي أجروها أنه قد حسّن من مستويات معيشة أفراد المجتمع المسجلين في المستويات الدنيا من الدخول المالية، بل أظهرت نتائج تلك الدراسات أن ثلثي القيم المضافة من هذا الاقتصاد الخفي تعود إلى قنوات الاقتصاد الرسمي، وبالتالي رأوا ـ راضخين - أفضلية الاقتناع بوجوده، وتركه دون محاربة، والاكتفاء بالمراقبة والمتابعة لئلا يخرج عن السيطرة.
ودون الخوض في جدل حول دقة تلك التوصيات، إلا أنه ووفقاً لطبيعة الاقتصاد السعودي القائم على الانفتاح والحرية مع بقية اقتصادات العالم، وكونه يضم بين جنباته ما يقارب الثمانية ملايين عامل من غير السعوديين، يسرّبون من الاقتصاد السعودي سنوياً نسبةً تراوح بين 10 و15 في المائة من الاقتصاد، وما أمكن توثيقه عبر القنوات الرسمية المصرفية بلغ ما يعادل الـ 60 مليار ريال، مع الأخذ في الاعتبار تلك القنوات الخلفية لتحويل الأموال للخارج التي استطاعت نسبةً كبيرة من العمالة المقيمة الاستفادة منها، وفي رأيي أنها في خانة عشرات المليارات! أمام هذه الصورة القاتمة أرى أن الأخذ بمثل تلك التوصيات يمثل نافذةً واسعة على الدمار الاقتصادي الذي لا تُعلم عواقبه! وهذا ما يدعوني بالضرورة القصوى أن أؤكد أهمية مواجهة هذا الاقتصاد المستتر في الظلام بأقصى درجات المواجهة، حيث أُطلق على تلك المرحلة من المواجهة القصوى ''التعقيم الاقتصادي'' للمنابع والمصادر ''الملوثة'' لأنشطة الاقتصاد الخفي في جميع اتجاهاته دون استثناء!
إذا علمنا جميعاً أن من أخطر نتائج هذا الاقتصاد في السعودية، تصاعد وتيرة معدلات البطالة بين شبابنا وفتياتنا، وانخفاض مستويات المعيشة نتيجة انخفاض الدخول الحقيقية، اللذين أدّيا مجتمعين إلى اتساع رقعة محدودي الدخل ''الفقراء''، إضافةً إلى ما سببه ذلك من استنزاف للثروة والاقتصاد المحلي، لتحوله ''أمام أعيننا'' إلى خارج الحدود، والذي أدّى إلى تحمّل الاقتصاد السعودي فواتير باهظة امتدت آثارها إلى مجالات الادخار والاستثمار والاستهلاك المحلي؛ من خلال تأثيرها السلبي على أوعية الإدخار التي تمول وتغذي حاجات الاقتصاد المحلي صوب تمويل المشاريع الاستثمارية، وحرمانه بالتالي من عوائده المضافة، وامتداد تلك الآثار السلبية إلى تكبيل وتقييد خيارات الاستهلاك المحلي. كل تلك الأسباب وغيرها من السلبيات الباهظة التكاليف تدعونا جميعاً ـ غير آسفين - في السعودية إلى ضرورة تبني سياسات وإجراءات نظامية واقتصادية صارمة لأجل الحد من اتساع دائرة هذا الداء بالدرجة الأولى، والقضاء عليه مستقبلاً بالدرجة الثانية. إننا بحاجةٍ إلى تبني ''حزمةٍ'' من السياسات الفاعلة والمستمرة على المستويات كافّة، وأهمها ما يرتبط بالمجال الاقتصادي؛ والتي تستهدف ''تعقيماً اقتصادياً'' لجميع مصادر وأنشطة هذا التلوث الاقتصادي المريع!
يتطلّب تحقيق النجاح في هذا المسعى عدداً من المتطلبات المهمة؛ التي لا يتسع المجال هنا لأذكرها ـ سأتطرق إليها في المستقبل القريب - غير أن من أهم هذه المتطلبات، إضفاء الشفافية المعلوماتية على جميع ''أرقام'' الاقتصاد المحلي دون استثناء! ليس هذا فحسب، بل إعادة تقييم وتحديث وسائل وطرق قياس أرقام النشاط الاقتصادي الحقيقي في السعودية، إضافةً إلى تسريع وقت نشرها، والتي أصبح من الواضح لدى كثيرٍ من الاقتصاديين أنها في كثير من الجوانب لا تعكس حقيقة ما يحدث على أرض الواقع، والتأثير السلبي لذلك الاختلال على قدرة المخطط الاقتصادي في وضع خطط وبرامج وسياسات إدارة الاقتصاد. ولعل من أبسط الأمثلة على صحة ذلك معدل نمو قطاع التشييد والبناء بنسبة قدرها 35 في المائة خلال عام 2003 في هيكل بيانات الناتج المحلي، في حين نما إنتاج ومبيعات شركات الأسمنت في السوق المحلية السعودية بما تجاوز 103 في المائة خلال الفترة نفسها، ووفقاً للمختصّين، فإن مبيعات الأسمنت كما هو مفترض فإنها تعكس بشكلٍ جيد ومباشر حالة قطاع الإنشاءات في السعودية، وتلك قضيةً أخرى تستحق إفراد مقالاتٍ مستقلة لها! ولذا فإن للحديث بقية.
|