عاشق ترابها
26-08-2008, 02:04 AM
على كثرة الأجهزة الرقابية في وطننا ، إلا أن فاعلية غالب تلك الأجهزة لم يكن لها عائد ملموس في تغيير أحوال من التدهور الإداري أداء ومهنة ليس في الأجهزة الحكومية بل حتى في الشركات المساهمة وبعض قطاعات الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والأهلي. ولعل من الإنصاف القول إن فعالية بعض أجهزة الرقابة كانت ذات أثر ملموس إلى حد معقول في ما قبل أربعة عقود ، رغم تفاوت تنامي وارتقاء التأهيل المهني والمعرفي للعاملين في الأداء الإداري . لكن ما بات مقلقا وباعثا على التذمر من قبل مقدمي الخدمات ومستقبليها على أثر تراجع كم وكيف الإنجاز، ليس بسبب قلة عناصر، ولا قلة في أجهزة الرقابة لكن واقع الحال لا يخلو من تقهقر متوال في مناشط الأداء الحكومي على وجه الخصوص وفي القطاعات التي لها علاقة بالحكومة وتخضع لإجراءات ورقابة سابقة ولاحقة ، سواء المصارف أو الشركات المساهمة، وحسب علمي ومدى اطلاعي لا أجد أني قد اطلعت على أي دراسة علمية قد عالجت هذا الأمر من أي مدار من مدارات الحال والأحوال في واقعنا المعيش.
لكن أعتقد ربما لدرجة اليقين أن مسألة الفساد أمر طبيعي في ظل تردي معالجة الأوضاع قانونياً من قبل أجهزة التخطيط والتوظيف والتوصيف المهني، فهناك عدة أنظمة لا ترابط بينها في مرجعية وحدة الأمر تشريعياً أو ما يمكن تسميته مناط الحكم كما في علم الأصول.
الأجور والمرتبات في أنظمة الحكومة مدنية كانت أو عسكرية، متفاوتة في وجود معيارية حسابية اكتوارية أو منطقية، فرغم التفاوت في تعدد جداول/ سلالم الرواتب إلا أنها لا تخرج عن نمطية التوافق في ضآلة الكم وكذا في الفوارق بين الدرجات والمراتب ولا تفرق كثيرا في تصنيفات المهن وما تستحقه من إعلاء لشأن التخصص والاحترافية والندرة، بل الأسوأ هو ثبات المرتبات في كل الأحوال على مدى زمني متصل لا يقل عن ربع قرن ، تبدلت فيه معايير وأحوال كثيرة ، منها تدني القيمة الشرائية، وارتفاع تكاليف المعيشة ، وتنامي متطلبات التعليم والصحة، وكذلك تبادل أدوار معيشية في الفئات العمرية، من خلال كثرة الأجيال الناشئة وكذا أجيال المتقاعدين.
ما زالت الحكومة توظف على بند أجور العمال ب 1500 ريال بل وحتى الوظائف الرسمية يكون مرتب المهندس أو الطبيب في بدء عمله ما بين 4800- 5000 ريال حامل درجة الدكتوراه ما زال توظيفه وفق سلم الرواتب 9700 ريال فيما أظن الضابط لا يزيد راتبه في بدء عمله أيا كان تخصصه عن 6000 ريال في أغلب الأحوال، بل إن الوزراء ومن في حكم وظائفهم ما برحت مرتباتهم في حدود 50000 ريال.
لقد غادر كادر الوظائف الحكومية في السنوات العشر الماضية عدد كبير من القياديين إما بالتقاعد أو البحث عن مرتبات أفضل، ولم يعد في أغلب الأجهزة الحكومية إلا ذوو التأهيل المعرفي المتدني، عديمو القدرة علي التفاعل مع متطلبات العمل وصناعة القرار، لذا باتت أعمال الإدارات الحكومية تدار بطريقة زحلقة الأوراق فإن لقحت أو ما ضرها طرق البعير.
ربما سلمت بعض الأعمال في الحكومة من سطوة نظامي الخدمة المدنية والعسكرية من خلال ابتداع بنود مشروعات التشغيل التي تعطي مرتبات تفوق مرتبات الوزراء كما أوضح ذلك محمد الفايز وزير الخدمة المدنية في ملتقى الحوار الوطني في القصيم قبل عدة أشهر ، وأن وزارته لا تعلم بمثل هذه البنود، لا تناقشها في درجات الوظائف المعتمدة للحكومة في الميزانية العامة للدولة ، بل الأدهى أن هنالك توجهاً لاعتماد سلم موحد للرواتب، فقد ينخفض راتب طبيب متخصص عاليا من 150 ألف ريال إلى 15ألف ريال.
لم يتوقف الحال هنا بل وصل إلى القطاع الخاص والأهلي حين ظلا ردحاً من الزمان يعيران من يطلب الوظائف لديهما بمرتبات الحكومة، ولهذا فإن بقاء الرواتب في مستوى متدن متأرجحا بين معايرة الحكومة ومقارنة العمالة الرديئة التأهيل والتدريب التي تأتي للقبول بمرتبات أقل وقبول بعقود إذعان وإذلال من أرباب الأعمال، لكن الحال تغير كثيرا عندما تطورت مسارات الأعمال المصرفية على سبيل المثال ، وتخرجت أعداد من البنات والأولاد بأفق علمي واسع وثراء معرفي أوسع وتدريب أشمل، فبات البحث عنهن/عنهم بتنافسية تغلب فيها الشباب على تقليدية بعض من ولوا إدارة التوظيف والموارد البشرية من ذوي الوعي القاصر، وصارت المرتبات تقفز إلى خمس بل ربما 6 خانات من عشرات الألوف من الريالات كمعاش شهري بخلاف مزايا أخرى، وسوف يزداد الأمر تطورا من خلال دخول مصارف عالمية جديدة للسوق السعودي وتصبح الشركات والمصارف السعودية تتنافس بمهنية واحترافية في البحث عن سعوديات وسعوديين.
عودا على أمر الكساد والفساد، فإن الكساد الذي سبق التطرق إليه مني هنا بإيجاز ـ عسى ألا يكون مخلا ـ قد بات محفزا في نظري إلى وجود الفساد ، فهل يمكن أن يشرف مهندس أو محاسب أو ضابط أو قاض، أو حتى وزير على إدارة أو تصريف أعمال وهو يرى عقودا بمئات الملايين، ومرتبات من يوقعون نيابة عن الشركات بعشرات الآلاف من الدولارات أو اليورو، ويبقى متحسرا.
كيف يعمل موظف في رئاسة قسم المناقصات وراتبه لا يزيد عن 3850 ريالاً ويخلص لعمله وهو يرى ضآلة ما يعطى له، مقابل ما يطلب منه من جهد؟ كيف يعمل كاتب ضبط بمرتب 5500 ريال وهو ينظر إلى ما يمر عليه من ضبط مبايعات بمئات أو آلاف الملايين يوميا؟ كيف يعمل أخصائي مختبرات الجودة في الغذاء والدواء وراتبه لا يزيد عن 6000 ريال شهريا وهو يعمل بين السموم والهموم.
كيف يمكن ألا يكون لدينا فساد دافعه الفقر والجوع ، الذي يبيح السرقة شرعا لسد الرمق أو بحثا عن مرق؟
كيلو لحم الضأن بـ 50 ريالاً أما البعير ففي الأسواق الشعبية بـ 25 ريالا ، الدجاجة بعشرة ريالات، الفطيرة في المدرسة بـ 5 ريالات، ومشبك الشعر للبنات بريال، وحذاء المدرسة بـ 50ريالاً ،ألا يؤدي هذا الحال من الكساد إلى الفقر، ثم الجوع ثم السرقة سدا للفاقة؟ هل يقطع الشرع يد من يسرق ليأكل؟ أم يدرأ الحد بشبهة الكفاف لا العفاف؟
عندما يكون المال دولة بين الأغنياء في الشركات المساهمة كما قال الدكتور عبدالله الحديثي في مقاله منذ أسابيع في صحيفة الاقتصادية، وتحتكر معه وظائف الإدارة والتصويت والتلاعب بأموال المساهمين، ولا يعطى موظف فقير وفر 1000 ريال وأراد أن يحصل على 100 سهم في شركة الطوب الأخضر المساهمة إلا سهماً واحداً فماذا يصنع ؟ إن باعه بضعف السعر 20 ريالا فسوف يخسر 12 ريالا عمولة للبيع لصالح الوسيط أو سوق المال؟ وإن صفي له شيء فلن يكفي ثمنا لدجاجة؟
أنا لا أدعو إلى تخل عن الأمانة والخلق السوي، لكن ما لكم كيف تحكمون، أي رقابة وأي أنظمة تحمي من الجوع سوف ترتقي بمهنية واحترافية في الأداء ، وتحافظ على سير الأعمال، أما البقاء في ترديد من أين لك هذا فأمر هو للاستهلاك النخبوي الثري ليس إلا.
* كاتب ومستشار إعلامي
محمد ناصر الأسمري
لكن أعتقد ربما لدرجة اليقين أن مسألة الفساد أمر طبيعي في ظل تردي معالجة الأوضاع قانونياً من قبل أجهزة التخطيط والتوظيف والتوصيف المهني، فهناك عدة أنظمة لا ترابط بينها في مرجعية وحدة الأمر تشريعياً أو ما يمكن تسميته مناط الحكم كما في علم الأصول.
الأجور والمرتبات في أنظمة الحكومة مدنية كانت أو عسكرية، متفاوتة في وجود معيارية حسابية اكتوارية أو منطقية، فرغم التفاوت في تعدد جداول/ سلالم الرواتب إلا أنها لا تخرج عن نمطية التوافق في ضآلة الكم وكذا في الفوارق بين الدرجات والمراتب ولا تفرق كثيرا في تصنيفات المهن وما تستحقه من إعلاء لشأن التخصص والاحترافية والندرة، بل الأسوأ هو ثبات المرتبات في كل الأحوال على مدى زمني متصل لا يقل عن ربع قرن ، تبدلت فيه معايير وأحوال كثيرة ، منها تدني القيمة الشرائية، وارتفاع تكاليف المعيشة ، وتنامي متطلبات التعليم والصحة، وكذلك تبادل أدوار معيشية في الفئات العمرية، من خلال كثرة الأجيال الناشئة وكذا أجيال المتقاعدين.
ما زالت الحكومة توظف على بند أجور العمال ب 1500 ريال بل وحتى الوظائف الرسمية يكون مرتب المهندس أو الطبيب في بدء عمله ما بين 4800- 5000 ريال حامل درجة الدكتوراه ما زال توظيفه وفق سلم الرواتب 9700 ريال فيما أظن الضابط لا يزيد راتبه في بدء عمله أيا كان تخصصه عن 6000 ريال في أغلب الأحوال، بل إن الوزراء ومن في حكم وظائفهم ما برحت مرتباتهم في حدود 50000 ريال.
لقد غادر كادر الوظائف الحكومية في السنوات العشر الماضية عدد كبير من القياديين إما بالتقاعد أو البحث عن مرتبات أفضل، ولم يعد في أغلب الأجهزة الحكومية إلا ذوو التأهيل المعرفي المتدني، عديمو القدرة علي التفاعل مع متطلبات العمل وصناعة القرار، لذا باتت أعمال الإدارات الحكومية تدار بطريقة زحلقة الأوراق فإن لقحت أو ما ضرها طرق البعير.
ربما سلمت بعض الأعمال في الحكومة من سطوة نظامي الخدمة المدنية والعسكرية من خلال ابتداع بنود مشروعات التشغيل التي تعطي مرتبات تفوق مرتبات الوزراء كما أوضح ذلك محمد الفايز وزير الخدمة المدنية في ملتقى الحوار الوطني في القصيم قبل عدة أشهر ، وأن وزارته لا تعلم بمثل هذه البنود، لا تناقشها في درجات الوظائف المعتمدة للحكومة في الميزانية العامة للدولة ، بل الأدهى أن هنالك توجهاً لاعتماد سلم موحد للرواتب، فقد ينخفض راتب طبيب متخصص عاليا من 150 ألف ريال إلى 15ألف ريال.
لم يتوقف الحال هنا بل وصل إلى القطاع الخاص والأهلي حين ظلا ردحاً من الزمان يعيران من يطلب الوظائف لديهما بمرتبات الحكومة، ولهذا فإن بقاء الرواتب في مستوى متدن متأرجحا بين معايرة الحكومة ومقارنة العمالة الرديئة التأهيل والتدريب التي تأتي للقبول بمرتبات أقل وقبول بعقود إذعان وإذلال من أرباب الأعمال، لكن الحال تغير كثيرا عندما تطورت مسارات الأعمال المصرفية على سبيل المثال ، وتخرجت أعداد من البنات والأولاد بأفق علمي واسع وثراء معرفي أوسع وتدريب أشمل، فبات البحث عنهن/عنهم بتنافسية تغلب فيها الشباب على تقليدية بعض من ولوا إدارة التوظيف والموارد البشرية من ذوي الوعي القاصر، وصارت المرتبات تقفز إلى خمس بل ربما 6 خانات من عشرات الألوف من الريالات كمعاش شهري بخلاف مزايا أخرى، وسوف يزداد الأمر تطورا من خلال دخول مصارف عالمية جديدة للسوق السعودي وتصبح الشركات والمصارف السعودية تتنافس بمهنية واحترافية في البحث عن سعوديات وسعوديين.
عودا على أمر الكساد والفساد، فإن الكساد الذي سبق التطرق إليه مني هنا بإيجاز ـ عسى ألا يكون مخلا ـ قد بات محفزا في نظري إلى وجود الفساد ، فهل يمكن أن يشرف مهندس أو محاسب أو ضابط أو قاض، أو حتى وزير على إدارة أو تصريف أعمال وهو يرى عقودا بمئات الملايين، ومرتبات من يوقعون نيابة عن الشركات بعشرات الآلاف من الدولارات أو اليورو، ويبقى متحسرا.
كيف يعمل موظف في رئاسة قسم المناقصات وراتبه لا يزيد عن 3850 ريالاً ويخلص لعمله وهو يرى ضآلة ما يعطى له، مقابل ما يطلب منه من جهد؟ كيف يعمل كاتب ضبط بمرتب 5500 ريال وهو ينظر إلى ما يمر عليه من ضبط مبايعات بمئات أو آلاف الملايين يوميا؟ كيف يعمل أخصائي مختبرات الجودة في الغذاء والدواء وراتبه لا يزيد عن 6000 ريال شهريا وهو يعمل بين السموم والهموم.
كيف يمكن ألا يكون لدينا فساد دافعه الفقر والجوع ، الذي يبيح السرقة شرعا لسد الرمق أو بحثا عن مرق؟
كيلو لحم الضأن بـ 50 ريالاً أما البعير ففي الأسواق الشعبية بـ 25 ريالا ، الدجاجة بعشرة ريالات، الفطيرة في المدرسة بـ 5 ريالات، ومشبك الشعر للبنات بريال، وحذاء المدرسة بـ 50ريالاً ،ألا يؤدي هذا الحال من الكساد إلى الفقر، ثم الجوع ثم السرقة سدا للفاقة؟ هل يقطع الشرع يد من يسرق ليأكل؟ أم يدرأ الحد بشبهة الكفاف لا العفاف؟
عندما يكون المال دولة بين الأغنياء في الشركات المساهمة كما قال الدكتور عبدالله الحديثي في مقاله منذ أسابيع في صحيفة الاقتصادية، وتحتكر معه وظائف الإدارة والتصويت والتلاعب بأموال المساهمين، ولا يعطى موظف فقير وفر 1000 ريال وأراد أن يحصل على 100 سهم في شركة الطوب الأخضر المساهمة إلا سهماً واحداً فماذا يصنع ؟ إن باعه بضعف السعر 20 ريالا فسوف يخسر 12 ريالا عمولة للبيع لصالح الوسيط أو سوق المال؟ وإن صفي له شيء فلن يكفي ثمنا لدجاجة؟
أنا لا أدعو إلى تخل عن الأمانة والخلق السوي، لكن ما لكم كيف تحكمون، أي رقابة وأي أنظمة تحمي من الجوع سوف ترتقي بمهنية واحترافية في الأداء ، وتحافظ على سير الأعمال، أما البقاء في ترديد من أين لك هذا فأمر هو للاستهلاك النخبوي الثري ليس إلا.
* كاتب ومستشار إعلامي
محمد ناصر الأسمري