الفاجعة
الفاجعة
لم يكن انتقالنا مع بداية الإجازة إلى مسكن جديد أمرا عاديا... بل كان حدثا مؤثرا في عائلة مكونة من أب وأم وثلاث بنات لقد اتسع المكان واصبح .. أبى وأمي يقيمان في جناح كامل .. وانفردت عن أختي بغرفة مستقلة . قالت والداتي محدثة أبى وهي فرحه مستبشرة:سندعو جميع معارفنا .. الآن فقدت يا زوجي العزيز جميع الأعذار السابقة.. وهاهو مجلس الضيوف كبير ، وذاك مجلس النساء مؤثث بأجمل أنواع الأثاث .. وستقضي أنت وأصحابك اسعد الأمسيات في هذه الحديقة الكبيرة .. ردد أبى بفرح عبرات الاستقبال وكأن الضيوف قادمون .. ثم أردف بسرعة وبدأ انه يتذكر شئ ما. وقال : الآن مع بداية تقاعدي عن العمل ..سنملأ منزلنا بهجة وسرورا .. وأنسا وحبورا.. سيكون ملتقى الأحبة والأصحاب هنا ..ثم التفت إلى الجميع وهو يقول - وابتسامه جميلة تزين محياه-: آن لي الآن إن استريح بعد مشوار العمل الطويل .. أربعون سنة خدمت فيها في مجال عملي .. قال وهو يحكى جهده ويحصد زرعه : الحمد لله الذي انعم على بنعم كثيرة .. هذا أخوكم الأكبر مدرس في الجامعة ، والأصغر يواصل دراسته العليا في الخارج، وانتن على أبواب التخرج- الحمد لله قرت عيني بكم جميعا فقد جمعتم بين العلم والأدب.. واسترجع الذكريات ..ووالدتي تحثه على التذكر .. استند إلى كرسي وسط الحديقة ومد قدميه وقال : الحديث طويل.. حديث أربعون سنة !! وارتسمت على محياه متعة ظاهرة وهو يسترجع الماضي ويعدد سنوات عمره .. سنة .. سنة !! وأين قضاها ومن هم زملائه في العمل .. ثم التفت إلى والدتي - بعينين ضاحكتين- أعاد قصة زواجهما منذ بداية خطبتهما .. ونحن نستمع ونضحك والدتي تعلق بكلمة أو سؤال .. ثم تتبعها ضحكة خجولة! سعادة لا حدود لها ترفرف على منزلنا .. يجملها محبة والدي لحديثنا ولـطـفـه معنا وتـلـبـيـة حاجتنا. *** قضينا اشهر الصيف في منزلنا الجديد وكأننا في عالم آخر .. وكانت الأيام تسير حلوة جميلة ، خاصة مع الساعات الطوال التي كنا نجلس فيها سويا نتجاذب أطراف الحديث . مع بداية العام الدراسي ظهرت حاجتنا إلى خادمة .. فالمنزل واسع ووالداتي تحتاج إلى من يعينها على أعمال المنزل الكثيرة والمتتالية.. فكان أن لبى والدي طلب الجميع لاستقدام خادمة بعد تردد وخوف .. واشترط استقدام زوجها معها وقال: لا تهم زيادة التكاليف.. انتن أهم عندي من أموال الدنيا كلها؟ بل انتن زهرة الدنيا وجمالها! كان المنزل يحوى ملحقا صغيرا يقع في زاوية الحديقة الأمامية أجرينا فيها بعض التعديلات واصبح ملائما لاستقبال السائق والخادمة .. ونبه والدي على الجميع بعدم الذهاب مع السائق إلا عند الحاجة ومع زوجته حتى تكون محرما له .. وعاد وكرر التنبيه ليسمع الجميع..وحرك إصبعه وكأنه يتهدد ويتوعد من يخالف الأمر!أطرقنا الرؤوس استجابة وقبول ! *** أزفت بداية العام الدراسي .. وانتقلت إلى السنة الأولى الجامعية .. ذلك الحلم الذي كان يراودني والأمنية التي طالما هفت إليها نفسي..بدأت الدراسة في القسم الذي اختارته أختي الكبرى .. ولكنى مع مرور الأسبوع الأول أحسست بعدم رغبتي في هذا التخصص .. بل وكرهي له .. عندها قررت الانتقال إلى قسم آخر.. وكان هذا القرار نقطة تحول في حياتي أيضا ..مع هذا لتحول فقدت من تعرفت عليهن في القسم الأول وبدا من الصعوبة بقائي وحدي أثناء الفراغ فكنت اهرب لأسلم واحدث زميلات القسم الأول .. ولكن لم تطل غربتي كثير في هذا القسم الجديد .. وبدأـ ضحكاتنا تتعالى ومعرفتنا ببعضنا تزداد.. وبدأت أنسى زميلات القسم الأول .. كان الجو العام مرحا دون ضابط وكنت اسمع النكات والتعلقيات لأول مرة .. وبسرعة تأقلمنا مع بعضنا فأصبحنا نوآنس بعضنا بل ونشكو لبعضنا البعض.. أما الشوق وحديث الهاتف وكشف خبايا النفس فانه ديدن تلك الصحبة .. بل هو ملحها وجمالها ……………………وفجأة .. وقع ما لم يكن في الحسبان. *** في هذا الجو الجميل والحلم الأبيض عثرت قدمي ..والتهبت عواطفي .. صداع لازم فكري منذ أن رأيت ذلك الشاب لأول مرة.. .. شاب يحمل صفات الأدب والخلق .. فها هو منذ شهر وهو بصعوبة وحياء يرفع عينيه نحوي .. بدأ قلبي يضطرب عند خروجي من الجامعة وأصبحت عيني تهفوا لرؤيته .. انه فارس أحلامي .. .. حينا في سكون الليل أراجع نفسي .. وصوت في أعماقي يردد : لا تفعلي ..لا تتقدمي! يا بنية انتبهي إياك وهذا الطريق !!.. ولكن أسرني بأدبه وملكني بحسن تصرفه! لا زلت أتذكر المرة الأولى التي رايته فيها وكانت سيارته بجوار سيارتنا.. ولكن للطفه وحسن أدبه انتحى جانبا وأفسح لنا الطريق .. ولم يصوب نحوى عينا ولم يتفوه بكلمة مثل بعض الشباب .. ما أجمل خلقه وما أنبل فعله!! بدأت أسارع بالخروج مع نهاية المحاضرة الأخيرة وأجرى في الساحة وأنا احمل قلبي المضطرب لكي القي نظرة عليه .. وربما يمر اليوم واليومين لا أراه فتتغير مشاعري ويسرح فكري.. ولكن أزال ذلك كله ما عطر سمعي من كلمة يلقيها إلىّ وهو بجوار سيارته ويفسح لي الطريق بقوله: تفضلي !! بقيت نبرة صوته ترن في أذني حتى خالطت شغاف قلبي وسرت في دمي ((تفضلي)). سارت الأيام سريعة حتى رأيت بأم عيني تبسمه عندما رآني .. فكان أن عاجلت عيني بالهروب من عينه..ولكن قلبي زاد خفقانه وارتعشت مفاصلي وسرى في دمي حديث النفس .. ما اجمل الابتسامة!! مع دخول فصل الشتاء وفي يوم غائم بدأ رذاذ المطر يداعب المارة.. فهذا يهرب بسرعة وذاك يتقي قطرات المطر بيده..في ذلك اليوم الذي لن أنساه طول حياتي .. ألقى إلى بهمسة حانية وكلمة دافئة .. واقترب من نافذة السيارة ثم وضع ورقة صغيرة اخترقت المسافات بيننا لتصل إلى يدي!! سارعت لإخفائها .. بل وتلهفت إلى ما فيها .. فإذا برقم هاتفه..وعندما هويت على سريري في غرفتي تناولت الورقة وقرأت ما بها مرة وثانية وثالثة .. بكيت بحرقة وندم .. كيف افعل هذا ؟ وهل يرضى الله عز وجل ذلك؟ كيف إذا وسدت في القبر؟ كيف أقود نفسي إلى الهاوية ! وأبي وأمي !وعائلتي! ومستقبلي؟! عندها ضج الكون في أذني!! وسقطت دمعات إيمانية لتروي ظمأى وحاجتي إلى التوبة والعودة.. وأنا امسح آخر دمعة: إلى هذا الحد يكفي .. توبي قبل أن تندمي.. ومع تقلب الأيام وقلة المعين وضعف الإيمان عصفت بي العواصف .. وتلا ذلك صراع نفسي قاتل وتردد .. وبقيت أيام لا يقر لي قرار ولا أهنا بنوم .. بل صاحبت الدمعة .. ورافقت الشكوى .. ولم يفارقني الأنين والتوجع!! بعد أسبوع من العواطف الجياشة ولحظات الندم المتتالية.. بقيت ليلة استعصى على فيها النوم ساهرة أتقلب من الفراغ على أحر من الجمر .. وكانت الخطوة الأولي التي بدأت معها نهايتي في ليلتي تلك!! عبثت أصابعي برقم هاتفه .. حتى وصلت الرقم الأخير .. عندها سارعت إلى التوقف واعدت سماعة الهاتف مكانها.. حاولت مرة ثانية وثالثة وأنا لا اكمل الرقم الأخير .. ثم تلي تلك الليلية محاولة جامحة لسماع صوته فقط .. وأقنعت نفسي بتلك الفكرة .. فقط لسماع صوته فحسب ..وهل يجيب بنفسه أم لا؟ وهل يحب السهر أم لا ؟ وكان ذلك عذرا مقنعا لي .. فكان إن عبثت برقم هاتفه بسرعة وقوة حتى سمعت صوته .. أعاد لقلبي نشوة اللحظات الأولي عندما سمعت (تفضلي). بدأت في أيام أخرى أشتاق لصوته فلا أتردد في ذلك.. حتى لم اعد أطيق الصبر عن سماع صوته كل يوم.. وأصبح من سعادتي اليومية أن احتفي بسماع نبراته الحنونه..بدأ عواء الذئب يتسلل إلى قلبي وتحول العواء إلي صوت تطرب له أذني وتهتز لحضوره مشاعري .. نعم لقد كان صوت جميل ورخيم ويفيض عاطفة وسحرا.. وعندها أسقطت حاجز الخوف من الله عز وجل من محادثة الرجال .. وحثت نفسي أن أحررها من القيود والأوهام ..انه فارس أحلامي ونشوة حياتي .. أقول لنفسي تمتعي بالشباب والجمال! اشبعي حاجتك العاطفية والنفسية !! سنوات عمرك تمر ولم تسمعي كلمة حب مثل غيرك من الفتيات! وصرخ الشيطان في أذني : كل الفتيات لهن أصدقاء!لما تخافين من خوض التجربة! هل أنت ضعيفة إلى هذا الحد؟ *** تغير نمط حياتي واصبح نهاري ليلا.. وليلي نهار .. جرس الهاتف له رنين في قلبي !! حرصت على البقاء في المنزل وعدم الذهاب مع أسرتي للزيارات ولأفراح خوفا من يهاتفني فلا اسمع صوته..نعم قسوت على نفسي حتى تركت أفراحا أحبها وأتمنى حضورها.. أصبحت بسمة أبى الجميلة وفرحة أمي الحنونة .. سيف يؤرق مضجعي .. وصوت يؤنبني ! بل أهم من ذلك كله صلاتي التي أصبحت أؤديها بدون خشوع ولا حضور قلب وأحيانا يصادف محادثته وقت صلاة المغرب ولا أقوم للصلاة! وكأن الأمر لا يعني شيئا.. لقد بدأ مسلسل السقوط في حياتي ..استبدلت تلك الضحكات الجميلة والنكات العذبة مع أهلي وخاصة أختي الوسطى بشرود دائم وتفكير مستمر..قلق واضطراب وهم متصل وتفكير دائم.. اصبح هو الوحيد في قلبي وفكري ومشاعري ..فلم اعد أري أحد في الدنيا سواه. *** مرت الأيام تثقل كاهلي وفحيح صوته تسلل إلى قلبي .. وسرت معه في طريق مظلم ودرب متعرج .. محادثة ومهاتفه.. ورؤية ومشاهدة!! حتى وقعت الطامة نعم لقد وقعت في أتردان الفاحشة.. وما كنت أظن أنني سأكون كذلك أبدا.. يوما.. أعدت حساباتي وأرقني سوء صنيعي فحاولت إن ابتعد عنه .. وقررت أن أنهي الأمر معه.. واهرب من ظلام المعصية إلى نور الطاعة ومن السعادة الزائفة إلى الفيء الجميل والظل الظليل.. تعذرت بالدراسة وبمشاغلي داخل المنزل وبقرب أختي مني وخوفي من سماعها مكالمتي له ..!!وعندما احتد النقاش وثارت ثائرتي .. كان لي بالمرصاد وقال بصوت حزين وهو يسترجع الذكريات ويردد كلمات الحب والإعجاب وقاربت دموعه أن تتحدر على خده- دموع التمساح-: لا تتركيني !! كيف اصبر عنك ؟ لا تكوني قاسية !! لا تكوني ظالمة!!واظهر ألم الفراق وقلة الصبر والشوق إلى! ولكنني تجلت وصبرت وقلت: لا أريد هذه العلاقة ولن استمر فيها..وعندما رأي عزمي وإصراري تغيرت النبرة الحنونة واختفت الدمعة وكشر عن أنيابه وقال: ماذا تفعلين بماضيك الجميل معي ؟ وتلك الصور .. وشريط التسجيل !! إلى أين تهربين؟ ولمن تذهبين؟! احترت في أمري وتوالت لحظات الضعف على قلبي وانهمرت دموعي .. فعدت إلى طريقي مرغمة كارهة! بعد أن كنت طائعة موافقة!! بدأ يقودني بلا رحمة إلى حيث يريد .. واستغل عواطفي وضعفي ولعب على جراحي.. ذكرته بوعوده بالزواج ..بدا يراوغ مثل الثعلب ويعتذر وهو يبتسم ابتسامة صفراء : تعرفين ظروفي ولا يهم وأنت لا تزالين صغيرة وأطلق ضحكة اصمت إذني.. عندها .. غرقت في دموع الكرامة المجروحة وأظلتني سحابة حزن قاتله! أصابتني غاشية من عذاب الله..فبنظرة من عيني .. وبعبث أصابعي رسمت طريقي، أزلت عفافي ، وخلعت حيائي. *** سقطت في الوحل وزللت في الهواية وأصبحت ألعوبة في يده .. حتى كان ذلك اليوم الذي كنت بجواره فأمسك بنا رجال الأمن.. فإذا بي استيقظ من سبات عميق وأزيل غشاوة على عيني ألقيت كل ما في قلبي وتوالت الصرخات من فمي معلنة قدوم الفاجعة..وكانت بحق فاجعة!! استبدلت فيها آسرة الذهب الجميلة التي أهداها إلى والداي بسلاسل من حديد واستبدلت صوت أمي الحنون بصوت السجانة الرهيب..في هذا اليوم سقطت الأقنعة وعادت المسميات إلى مواقعها الصحيحة..في هذا اليوم أيقنت إن ما كنت فيه وهم وسراب وان العلاقة التي بيننا ما هي إلا زني وفاحشة .. في هذا اليوم ظهرت الحقائق فإذا هو زاني وأنا زانية. وتبدت لي معالم جديده إنها معالم الفاجعة بحق كيف سيكون وقعها على أبى الذي دفع دم قلبه لنعيش نحن وكيف سيكون وقعها على أمي الحنونه وأخواتي الغافلات. بتصرف من كتيب بعنوان الفاجعة قصة واقعية للأخ/ عبد الملك القاسم وفقه الله .
|