عرض مشاركة واحدة
قديم 17-02-2008, 04:55 AM   #34
bhkhalaf
الفريق الصحفي لتداول - عضو ذهبي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2005
المشاركات: 34,586

 
افتراضي

مجتمع الاستهلاك.. أزمة الطاقات المعطلة
سلمى العبدالله
تميزت الأسرة السعودية بشقيها الحضري والبدوي منذ القدم بالاكتفاء الذاتي من ناحية الموارد أو الإنتاج، فكانت تعتمد على مواردها الذاتية، من رعي وتجارة وزراعة. وعلى ما تنتجه وتصنعه لكل ما تحتاجه من مقومات الحياة. فالأسرة البدوية تعتمد على رعي الماشية بشكل رئيس، وتكتفي بغذائها ووسائل عيشها من الماشية، حيث تنتج الإقط والسمن والزبد، وتغزل البسط والخيام والملابس. ويتطبب البدو بالأدوية العشبية في الصحراء. وتعتمد الأسرة الحضرية، سواء في الريف أو المدينة، على الزراعة الأولية كالحبوب والخضروات والفواكه والتمور وتصنيع المواد الغذائية كالتخليل والتعليب، والصناعات الحرفية البدائية لما تحتاجه الحاضرة في حياتها. وهذه النشاطات يبذلها جميع أفراد الأسرة من الأب والأم والأبناء متكاتفين بيد واحدة لمواجهة أعباء الحياة ومسؤولياتها.
وتبعا لذلك تتبادل الأسر الحضرية المنافع بينهما. وكل يستعين ما يلزمه من إنتاج الآخر، ولا يتبقى سوى القليل الذي يستوردونه من الخارج كالأرز والأدوية والورق والأقمشة وغيرها.
استمر ذلك الحال ،حتى بدأت حياة المدينة، وظهرت بوادر العمل الحكومي المنظم، وانتشر التعليم، وتحول أغلب أفراد المجتمع من العمل الحرفي الخاص إلى قطار الموظفين، وانتعشت الأحوال المعيشية. ورافق ذلك انتشار الأسواق الاستهلاكية التي بدأت تسوّق ما ينتجه الآخرون على استحياء، ثم انفتحنا على الأسواق العالمية التي استدرجتنا بإنتاج جميع ما نرغبه من أساسيات وكماليات حتى اصطادتنا، ولم يعد هناك مجال للتفكير بالإنتاج. فجميع ما نحتاجه يقدم لنا بسهولة.
وانسحبت الأسرة ومن ورائها المجتمع بشكل كامل من الإنتاج اليدوي. وأصبحنا مستهلكين فقط. وارتبطت قيم العمل لدينا بالحاجة أو التسلية لا بالوعي بأهميتها لحياة الفرد واعتماده على نفسه.
المشاهد حاليا ،إن الوالدين أو أحدهما فقط ،هو الذي يعمل، أما الأم فجلّ اعتمادها في المنزل على الخادمة، ومعظم الأبناء والبنات من الجيل الحالي على اختلاف أعمارهم ليس لهم أي دور في الحياة سوى الدراسة النظرية للعلوم ،وتمضية الإجازة السنوية في اللهو وضياع الفرص (إلا ما قلّ)، في الوقت الذي يتمتع فيه عقل الشباب بأنشط طاقاته من القدرة على العمل والدراسة. ولكنه يأخذ إغفاءة طويلة من التبلد والركود. فإذا حسبنا مجموع الإجازات من بداية التعليم العام حتى نهايته نجد ان هذا الجيل يمضي ثلاث سنوات من عمره ،دون أي هدف، أو إتقان أي عمل يدوي أو تقني أو مهارة تفيده في مقتبل العمر.
لا نلوم هذا الجيل وما يعيشه فهو في النهاية صناعتنا، لكننا في نفس الوقت يجب أن نتنبه ،بأن الظروف تغيرت، ففرص العمل قليلة والمنافسة شديدة، والغلاء ينهش الجيوب بضراوة، ومخرجات التعليم لا تلبي حاجة العمل. ونحن نزحف لنكون رقما في عالم يطير، فما نحن فاعلون لنواجه تلك الأزمات بدلا من الشكوى واستجداء الحلول من الغير؟!
يتعين أن تسود ثقافة احترام الحرفة ومكافحة بعض ما غرسه فكرنا العربي الذي تشكل بانتقاص العمل اليدوي، تبعا لما تشرّبناه من أفكار المؤرخين القدماء بتفضيل العمل المكتبي على اليدوي. وهذا غير صحيح فالفني المتمكن لا غنى عنه اليوم، ويتقاضى دخلا أفضل من الموظف في المكتب، وجميع الابتكارات من الإبرة حتى الصاروخ ،بدأت فكرة وتصنيع يدوي ثم تطورت. كما أن ديننا يحثنا على العمل بأيدينا واليد العليا خير من اليد السفلى.
والاعتماد على الأبناء منذ الصغر بالتدرج بتكليفهم بأعمال بسيطة، ومساعدة الوالدين، والاستغناء عن الخدم (لمن لا يحتاجهم كثيرا) وتوزيع المسئوليات مع مكافأة الأبناء والزوجة غير الموظفة (مثلاً بدفع نفقات الخادمة)، هو عمل يعود على جميع الأسرة بالخير، مع أن بعض أفراد المجتمع يرسل لنا، مشكورا، رسائل سلبية بأن ما يمكن أن نصنعه في المنزل يوجد في الأسواق بسعر التكلفة.. فلماذا نجهد أنفسنا؟ وكذلك الذين يبثون دعاية بأن الأعمال المنزلية لا تؤدي الى أي تطور ذهني!.
كلا .. فالمساهمة تدفع الأبناء لحب العمل واحترامه والصبر والجدية، وتآزر العين مع اليد وعمل العقل في الملاحظة والاستنتاج والابتكار، فالطبخ مثلا عمل يدوي يتبعه ملاحظة واستنتاج وحرفية وتدريب على مهارات التسوق وتنظيم الميزانية، واكتشاف المواهب وانطلاق مشاريع صغيرة من المنازل، وليس بالضرورة أن تتعلم الفتاة صنع أطباق العصور الغابرة أو الصناعات القديمة، ولكن ما تفضّله وأسرتها من المأكولات والحلويات العالمية والأطعمة السريعة ووجبات الأطفال والشوكولا الفاخرة، وطهوها في المنزل بمكونات صحية وسط بيئة نظيفة، وهذه مساهمة طيبة وذكية منها للحد من الاستهلاك خارج المنزل. فسلسلة المطاعم العالمية بدأت بأفكار فردية ومحاولات فاشلة ،أعقبها نجاح بارع في استقطاب هذا الجيل وجيوبه.
ويحضرني هنا، أن وجيهاً حاول، قبل خمسين عاما، أن ينشىء مصنعاً للألبان في إحدى المناطق، ولكنه لم ينجح. وكان من أسباب فشل المصنع اكتفاء الأهالي بمنتجاتهم المنزلية من الألبان ومشتقاته. وكان هذا، أيضا، يسري على صناعة العطور والكريمات والماكياج من عناصر طبيعية. وإنتاج الإكسسوارات والمشغولات الفنية من معطيات البيئة.
ويمكن أن يتطور العمل من فكرة ونبتة صغيره في المنزل إلى مصنع كبير بأيدي فتية يشمخون بأسمائهم بإذن الله.
اما الفتى فيمكن الاعتماد عليه في التسوق، وإصلاح السيارة، أو ما يناسبه من أعمال الصيانة للمنزل، فذلك يفتح آفاق العمل الحر لديه، وصقلا لمهارة كليهما في التدريب على تحمل المسؤولية بعد الزواج.
لقد تعرض مجتمعنا من قبل لأزمات عديدة ومحن مثل سنة الجوع التي مات فيها أناس كثيرون، وأزمة الخليج التي تكالب الناس حينها على شراء الأرز والمواد التموينية. لكن ذلك لم يغننا عن الخوف وتمني زوال تلك المحنة وعودة الأمان والاستقرار. فلنحمد الله ونعلم ونثق أن ما أصابنا تجربة نحن قادرون على اجتيازها بترشيد المصروفات وتفضيل الأهم على المهم، ونبذ التبذير ورمي المأكولات والمقتنيات، ومنها الأرز الذي طالبنا بتخفيضه ،وأثبتت الإحصائيات أن 25%من كميات الأرز تذهب لحاوية النفايات، بسبب ثقافتنا الاستهلاكية وقلّة الوعي التي ساعدنا نحن في تعزيزها وانتشارها. فلتستعد الأسرة السعودية رايتها. وتتكاتف وتستنبط الحل من داخل المنزل، بالتخطيط السليم والعمل الجاد. وتمارس دورها لإنقاذ السفينة من الغرق في لجة الديون، أو الانحدار الى قاع الفقر والحاجة.
bhkhalaf غير متواجد حالياً