مامون فندي ( الشرق الأوسط )
هل تخطت الأزمة السورية نقطة التدخل؟
لحظات التدخل في الصراعات الدولية كما لحظات التدخل في جراحات الطب الدقيقة، فهناك لحظات يمكن فيها التدخل لو تجاوزها المريض تتغير كفتا الميزان، ليوازن الطبيب ما بين حياة المريض فترة بالمرض مقابل تدخل قد يؤدي إلى موته أو في أحسن السيناريوهات مضاعفة الأزمة.
والتدخل في سوريا يبدو في الغرب أنه تجاوز نقطة الشفاء إلى تدخل يضاعف من نسب الضحايا ومأساتهم. لذا يخيم التردد، أو ما يسمى بالأقدام الباردة، على عواصم الغرب المؤثرة تجاه فكرة التدخل العسكري في سوريا. في الحروب التي تشنها الدول الديمقراطية لتغيير أنظمة كما في حالتي الإطاحة بنظام صدام حسين في حرب 2003 والإطاحة بنظام القذافي من بعده من خلال تحالف الناتو عام 2012، يكون لزاما على هذه الديمقراطيات أن تشرح مبررات التدخل لشعوبها التي ستدفع تكاليف الحرب المادية والبشرية، لكي يحصل الرئيس على دعم شعبي لحرب قد تطول كما هو الحال في الحرب على «القاعدة» في أفغانستان، أو حتى من أجل حرب خاطفة كما في حالة إنهاء مأساة التطهير العرقي في البوسنة والهرسك. والتبرير غالبا الذي تقبله الشعوب الديمقراطية والذي يمكن تصويره إعلاميا هو المآسي الإنسانية، وغالبا حملة إعلامية كهذه تجد مقاومة في أول الأمر حتى تتدفق الصور البشعة وتكتمل الصورة وتزداد نسبة التأييد لإنقاذ البشر.
في اعتقادي أن الصور التي رآها العالم من سوريا، وبكل بشاعتها، قد بلغت قمتها في التأثير على الرأي العام، والمنحنى البياني الآن لتأثير الثور يأخذ خطا تنازليا، إلا إذا حدثت مذبحة كبرى، وهذا أمر وارد جدا، لو أخذنا في الاعتبار تلك الأعداد التي يشيب لها الرأس من القتلى والجرحى والمشردين جراء حرب مجنونة، حيث بلغت التقديرات المحافظة جدا لعدد القتلى ما بين 60 ألف قتيل إلى 70 ألفا. أي تدخل عسكري الآن في أحسن الظروف، وعندما يتم التحسب جدا لما يسمى «Collateral Damage» أو الآثار الجانبية للقصف من الجو ومن البحر، فقد يرتفع عدد الضحايا من السوريين إلى ما يزيد على المائة ألف، هذا إذا لم نصل لهذا الرقم قبل التدخل. ويأخذنا التدخل العسكري الغربي، إذا حدث، إلى مستويات أعلى من البشاعة والقتل. ما أسمعه في عواصم الغرب المختلفة يوحي بأن أقدام الغرب قد بردت كثيرا من ناحية فكرة تغيير النظام في سوريا بالقوة العسكرية على غرار ما حدث للقذافي في ليبيا. في لندن وواشنطن ارتفعت نغمة فكرتين أساسيتين؛ الأولى هي فكرة اليوم التالي لسقوط النظام في سوريا والتي على ما يبدو أنها وصلت لاستنتاج مفاده أن أفضل سيناريوهات سوريا قد يكون على غرار ما حدث في مصر، والذي يمكن تلخيصه بفكرة إبدال استبداد ونظام قبيح بنظام يبدو أكثر استبدادا، والفارق هو أن النظام السابق كان براغماتيا ويمكن التعامل معه على الأقل في القضايا الإقليمية، حيث كانت القاهرة ولسنوات مفرغة من أهلها ومشاكلها وناسها، ونظر إليها العالم على أنها قاعة مؤتمرات كبرى (مؤتمر رايح ومؤتمر جاي)، وهو دور استحوذت عليه قطر الآن.
الثورات العربية أو الانتفاضات، أيا كانت رؤية القارئ، كان لها مردود إيجابي كبير، خصوصا في ما يخص تغطية الصحافة الغربية لعالم العرب، إذ لم يعد العالم العربي مجرد مؤتمر في القاهرة، وعقد صفقة سهلة. اليوم القصة الصحافية ليست في مكتب الرئيس بل في الشارع في ميدان التحرير بالقاهرة، وفي ميدان القائد إبراهيم بالإسكندرية، وفي السويس. مصر أصبحت وطن خبر لا يمكن تجاهله. وهذا لم يكن درسا تعلمته الصحافة الغربية فقط، بل الصحافة والتلفزيونات العربية تعلمت الدرس وعرفت أن القصة الصحافية ليست في مقابلة مرسي أو حتى الأسد. القصة في الشارع وعلى جبهات المواجهة. مرسي ليس قصة صحافية، ومقابلة مع قائد الـ«بلاك بلوك» في مصر تكون خلطة صحافية أهم من مقابلة مرسي عشرات المرات. ولكن ما دخل هذا بالتدخل في سوريا وخفوت نغمة دعوات التدخل؟
الإعلام الغربي، الذي جذبه بريق الثورة كما تنجذب الفراشة إلى النور في مصر وتونس، وتحدث عن أن الديمقراطية هي الحل، وأن فجر الديمقراطية انبلج ولجلج، حسب رأي الرئيس مرسي، الإعلام نفسه اليوم على الهواء وفي غرف التحرير يتحدث بشيء أشبه بالعنصرية، ويقول بوضوح إن الديمقراطية كنظام حكم لا تناسب هذه المنطقة من العالم. إذن كي يقنع أوباما الأميركيين أو يقنع ديفيد كاميرون البريطانيين بأنه سيرسل أبناءهم إلى دمشق من أجل القيم الغربية بما فيها الديمقراطية، فلن يجد أي منهما من يقف معه، فلا ديمقراطية في عراق كلف الأميركيين مليارات الدولارات وآلاف القتلى، وكيف أن الثورة المصرية بكل جمالها في بداياتها أنتجت النظام الحاكم الحالي. فهل سيرسل الغرب أبناءه لسوريا لإنتاج نظام بديل بقيادة جبهة النصرة وجماعات متطرفة ذات عقائد ومشارب مختلفة؟ هذا هو سبب التردد الرئيس في العواصم الغربية. وجاء حادث تفجير ماراثون بوسطن ليستعيد في الذهن الغربي ذكريات 9/11 في أميركا و7/7 في بريطانيا، ويعيد الربط بين المتطرفين من المسلمين والإرهاب. وفي هذا السياق لا يريد زعيم غربي أن يقال عنه إنه وضع يده في يد جبهة النصرة والعرب والأفغان في سوريا. كما أن الأرقام التي تحسب في سيناريوهات التدخل العسكري الأميركي حتى الآن، في حال عمليات جوية خاطفة تطيح بنظام الأسد، ستضاعف من عدد الضحايا الذي نعرفه الآن، أي من 40 ألفا إلى 60 ألفا.
التقارير التي وردت من المبعوثين الدوليين من كوفي أنان حتى الأخضر الإبراهيمي، وكذلك الجماعات البحثية المستقلة، كلها تصب في أن أفضل الحلول التي يمكن التعامل معها هو شيء أشبه بفض الاشتباك في الصراعات الدولية. وهذا يعني اعترافا بحقائق القوة والنصر والهزيمة على الأرض. أي أن النتيجة هي أن يتفاوض الجيش الحر وجبهة النصرة وخلافهما مع الأسد على ما حرروا من مناطق. هنا تدخل سوريا في التقسيم ولكن بشكل سياسي يعكس السيطرة الفعلية على الأرض. إذا كان هذا صحيحا فإننا قد نرى مزيدا من القتال ومزيدا من الضحايا من أجل فرض الأمر الواقع على الأرض. وكلما زاد القتال وزاد عدد الضحايا تباعدت فكرة التدخل الدولي عموما والأميركي البريطاني خصوصا.
إذن وفي تقديري يمكن القول إن أزمة سوريا قد عبرت نقطة التدخل العسكري وإمكانيته. سيناريو العراق أيام الإطاحة بصدام وكذلك سيناريو القذافي غير قابلين للتنفيذ، وربما آخر السيناريوهات الذي قد يفرض نفسه هو سيناريو يوغوسلافيا بعد مذابح بريشتينا وكرواتيا والبوسنة.. تدخل جوي يوصلنا مرة أخرى إلى حل الأمر العسكري الواقع على الأرض من فصل للقوات.
الأزمة السورية ستبقى نزيفا ممتدا ما لم تتدخل القوى الإقليمية بشكل واضح، وللأسف معظمها قوى متنازعة، جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل. كيف انتقلت سوريا من حالة ثورة إلى حالة حرب؟.. نحن الآن ننتقل من حالة حرب داخلية إلى حالة نزاع إقليمي مصحوب باصطفاف دولي. ومن هنا نكون عبرنا نقطة التدخل الدولي إلى نقطة إمكانية انفلات نزاع إقليمي.